أقلام الثبات
تقدمت جنوب أفريقيا على مجموع الدول العربية والإسلامية في وضع جرائم الكيان "الإسرائيلي" أمام محكمة العدل الدولية، الشهر الفائت، في بادرة تكشف مدى تقصير حكومات تلك الدول، بكشف وتعرية الطبيعة الإجرامية للكيان الذي اغتصب فلسطين؛ ويهدد بعدوانيته التوسعية كل المدى العربي المحيط بها.
ويكشف حجم التعامل البارد مع المجازر "الإسرائيلية" الحالية التي ترتكب بحق سكان قطاع غزة، والتي سقط فيها قرابة المائة ألف مدني فلسطيني، بين شهيد وجريح.
إن المسؤولين العرب تعودوا السكوت على مجازر الصهاينة بحق شعوبهم، منذ أن اغتصب الصهاينة فلسطين. فحرب احتلال فلسطين التي قاومها الفلسطينيون "باللحم الحي"، قتلت فيها العصابات الصهيونية خمسة عشر ألف مدني فلسطيني؛ وهجرت مئات الآلاف، وامتدت يد القتل الصهيونية إلى جوار فلسطين، فارتكبت عشرات المجازر بحق المدنيين، خصوصاً في لبنان. فمنذ العام 1948 يتعرض الجنوب اللبناني وسكانه للاعتداءات "الإسرائيلية"، حيث خرقت عصاباتها الحدود الجنوبية، تلك السنة، ضمن "عملية حيرام" التي بدأت في 29 تشرين الأول، واحتلت فيها نحو 15 قرية، وقامت بتنفيذ مجزرة في بلدة حولا الحدودية، في الأول من تشرين الثاني، التي اودت بحياة 93 مواطناً، وحاول الصهاينة آنذاك فرض أمر واقع من خلال دخولهم الى لبنان، بالبقاء في القرى التي احتلوها والوصول الى نهر الليطاني، للحصول على حصة من مياهه، لكنهم عادوا وانسحبوا من بعض تلك القرى، باستثناء القرى السبع (هي 13 قرية محتلة) بعد التوقيع على اتفاقية الهدنة مع لبنان، في رودوس في 23 آذار 1949. فالعدو "الإسرائيلي" يتصرف بمنطق القتل والتدمير وارتكاب المجازر لنشر الرعب، في نزعة متأصلة لديه.
وعلى الرغم من اتفاقية الهدنة، واصل الصهاينة اعتداءاتهم وعملياتهم العسكرية التي شملت معظم القرى والبلدات الحدودية؛ وحتى القرى الجنوبية البعيدة عن الحدود. وتمثلت تلك الاعتداءات بغزو القرى وقتل المواطنين؛ وضرب البنية الاقتصادية والاجتماعية، لدفع الأهالي الى النزوح .
ومنذ ذلك التاريخ، لم تتوقف الاعتداءات على لبنان، كان أبرزها في تشرين الأول 1965، عندما أغارت الطائرات "الاسرائيلية" على منابع الحاصباني والوزاني؛ وعطلت المشروع الذي كان مجلس جامعة الدول العربية قد أقره في العام 1964، ويقضي بتحويل مجاري الأنهر التي تصب في بحيرة طبريا؛ وهي الحاصباني والوزاني اللبنانيان وبانياس السوري.
وفي تشرين الأول 1965، اجتازت قوات العدو خطوط الهدنة مسافة 3 كلم. ودخلت قريتي حولا وميس الجبل؛ ونسفت منازل وخزانات مياه عامة فيها.
وفي حرب حزيران 1967، التي لم يشارك لبنان فيها، اجتاحت "اسرائيل" مزارع شبعا في جبل الشيخ، واحتلتها وطردت أهلها وفجّرت منازلهم.
ومساء يوم 28 كانون الأول 1968، نزلت فرقة كوماندوس "إسرائيلية" في مطار بيروت؛ ونسفت 13 طائرة من الطائرات المدنية اللبنانية؛ ثم غادرت دون أية مواجهة.
وفي العام عام 1970 ، دخل جيش العدو الى قرى عدة في العرقوب ومرجعيون وبنت جبيل؛ وشن هجمات ثم انسحب .بعد أن أصدر مجلس الامن الدولي القرارين 279 و280، الذين طالبا بالانسحاب من الأراضي اللبنانية. وفي أيلول 1972 قام جيش العدو بقصف الجسور التي تربط المناطق الجنوبية بعضها ببعض، خصوصاً جسور نهر الليطاني. وشن الكيان العبري عام 1971 غارات وهجمات في منطقتي مرجعيون وبنت جبيل والعرقوب والخيام وكفر كلا.
ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان العام 1975، دخلت "اسرائيل" على خط الازمة بشكل علني ومباشر، من خلال ما سمي بالجدار الطيب، وهو تسمية "اسرائيلية" لنقطة حدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة، قرب مستوطنة المطلة، وشكّل "الجدار" رمزاً لتعامل بعض اللبنانيين مع العدو؛ والعمل لديه باجور زهيدة.
وتوالت الاعتداءات "الإسرائيلية"؛ ففي 21 تشرين الأول 1976، قصفت قوات الاحتلال سوق الخميس في بنت جبيل، فسقط م 23 شهيدا و30 جريحا.
والملاحظ، أن لبنان بعد حرب 1948، لم ينخرط بأي حرب على الكيان "الإسرائيلي". ولم يشارك في الحروب العربية "الاسرائيلية" في الأعوام 1956 و1967 و1973. لكن مع التزامه بالحياد وعدم الانخراط في المعارك، الا ان العدو لم يوقف اعتداءاته عليه. التي تطورت إلى اجتياح الجنوب عام 1978؛ واجتياح لبنان عام 1982، ثم إقامة شريط حدودي محتل، استطاعت المقاومة إجبار العدو على الانسحاب منه عام 2000، ومنذ ذلك التاريخ والعدوان مستمر والمجازر "الإسرائيلية" متواصلة، مثل مجزرتي الخيام وقانا وغيرهما، التي سقط في كل منها مئات الشهداء.
وما جرى في لبنان شهدت مثيله مختلف الأراضي العربية المحيطة بفلسطين. فقطاع غزة الذي يشهد هذه الأيام أبشع الجرائم "الإسرائيلية"، لم تفارقه العدوانية الصهيونية وجرائمها، خصوصاً قبل وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. ومنذ احتلال العدو للقطاع عام 1967، حتى إجبار المقاومة له على الخروج منه عام 2005، سجلت عشرات المجازر بحق سكان القطاع، قتل فيها العدو الآلاف من المدنيين وجرح عشرات الآلاف.
وما جرى في فلسطين، تكرر في معظم البلدان العربية. والمصريون لا يمكن ان ينسوا المجازر التي ارتكبت بحق الأسرى من الجيش المصري في سيناء سنة 1967؛ ولا مجزرة بحر البقر، التي قصف فيها طيران العدو مدرسة، فقتل حوالى مائة طفل، أثناء حرب الاستنزاف. وتونس شهدت عمليات اغتيال لقادة فلسطينيين، كانوا نفوا إليها بعد اجتياح لبنان. والسودان انقسم جنوبه عنه، بدعم "إسرائيلي" علني ومباشر. وسورية لم تنعم يوماً بالسلام، منذ إقامة الكيان الغريب في فلسطين. حتى العراق البعيد، لم يسلم من عدوان "إسرائيل" التي أغار طيرانها على المفاعل النووي العراقي ودمره. واللافت، أن صوتاً رسمياً عربياً لم يخرج مندداً بالجريمة التي تشارك فيها "الإسرائيلي" والأميركي، إذ قدمت "الفزعة" الأميركية للصهاينة، بعد عملية طوفان الأقصى، كميات ضخمة من الذخائر، كان بينها قذائف تزن الواحدة منها أكثر من طنين، لضرب الأنفاق. لكن العدو "الإسرائيلي" استخدمها لقصف الأبنية والأبراج السكنية، فكان القصف يترك حفرة مكان المبنى المقصوف، فيما ركام المنازل وسكانها يتطاير إلى مسافات بعيدة. وهذا "التطنيش" العربي، يذكرنا بالتطنيش السابق، عندما أعطت فرنسا "إسرائيل" تقنية صناعة القنبلة الذرية عام 1956، وسط صمت رسمي عربي مشبوه. وكذلك، عندما ضرب "الإسرائيليون" البارجة الأميركية " ليبرتي"، فانكشفت مشاركة الأميركيين في عدوان حزيران 1967. والصمت ذاته سبق أن رافق مساندة الجيش البريطاني للعصابات الصهيونية، في حربها ضد الفلسطينيين وضد الجيوش العربية عام 1948. فمتى ينته عصر التواطؤ ويبدأ زمن الحساب الرسمي، فحساب الشعوب مفتوح تسجل فيه المقاومة صفحات تلقن فيها الغزاة ما يستحقون.