أقلام الثبات
انسحبت "إسرائيل" من قطاع غزة في العام 2005، بعد أن فشلت في تجفيف منابع الصواريخ التي كانت تُصنَّع في ورش الحدادة المتواضعة، وأطلقت على انسحابها تسمية "خطة فك الارتباط الأحادية الجانب"، وأخلت معها ثمانية آلاف مستوطن كانت قد استحدثت لهم مستوطنات في بدايات التسعينات، ومنذ انسحابها الخائب قبل ثمانية عشر عاماً، خاضت حروباً لا حصر لها على قطاع غزة المحاصر، وكانت النتيجة، أن تطورت أسلحة المقاومة الفلسطينية من صواريخ مقسطرة في ورش حدادة، الى جيل التوجيه باللايزر للصواريخ والقاذفات المختلفة، وباتت غزوة غزة البرية التي ارتكب حماقتها بنيامين نتانياهو منذ أسابيع أشبه بقفزة نحو الجحيم.
دخل نتانياهو غزة بسقفٍ عالٍ: "القضاء على حركة حماس وقتل قادتها وتحرير الأسرى"، وسقفه اليوم كيفية الخروج من قطاع غزة بعد ضمان تسليم الحكم فيه لغير حماس، وبناء على "تطوُّع" رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس استلام القطاع بعد انتهاء الحرب، أجاب نتانياهو بأن السلطة في رام الله بوضعها الحالي لا تستطيع القيام بهذا الدور، وأن عباس لم يتصل لغاية الآن لاستنكار ما ارتكبته حماس في مستوطنات غلاف غزة، ليتبين منذ يومين أن التحقيقات "الإسرائيلية" أثبتت أن حماس هاجمت كتيبة غزة في "جيش الدفاع"، وأن المجزرة التي حصلت بالحفل الموسيقي في المستوطنة القريبة من القطاع صباح السابع من أكتوبر الماضي، قد ارتكبتها طائرة "إسرائيلية"، نتيجة الخطأ الاستخباراتي، وبذلك تكون الكذبة الصهيونية في اتهام حماس قد كلفت الأبرياء من أطفال ونساء وعجزة فلسطين آلاف الشهداء.
"غزوة" غزة الحالية ظاهرها تهجير سكان شمال القطاع الى جنوبه، بهدف إبعاد خطر صواريخ القسام عن المستوطنات، وباطنها غاز غزة والقضاء على الحق الفلسطيني بإقامة دولته ضمن حدود العام 67، والاعتداءات "الإسرائيلية" على الضفة الغربية وإعادة إحياء المستوطنات فيها، تدخُل ضمن سياق المخطط نفسه الذي وضعته الحكومة اليمينية المتطرفة التي بالغت في الإجرام غير المسبوق، فيما تهاوت شعبيتها في الداخل "الإسرائيلي"، نتيجة القصور الاستخباراتي والعملياتي، خصوصاً ما يرتبط باستعادة الأسرى، إضافة الى أن رصيدها الخارجي بلغ الحضيض، نتيجة المشاهد الدموية وحرب الإبادة التي تخوضها بحق المدنيين، ووصلت بها الأمور في مجمع مستشفى الشفاء الى ابتداع ذريعة اعتباره مركز قيادة وسيطرة لحركة حماس، واحتلت المجمع لجعله مركز قيادة وسيطرة لجنودها وآلياتها العسكرية، على جثث الشهداء وآلام الجرحى والمرضى الفلسطينيين، دون أن يجد المُعتدون في كافة أبنية هذا المجمع أي أثرٍ لتجهيزات عسكرية داخله، ولا وجدوا في أسفله ما يعتبرونها مداخل أنفاق مزعومة، وكل الهدف من تدمير مستشفيات شمال القطاع هو القضاء على البنى التحتية ومقومات الصمود لشعب يرفض النزوح الى الجنوب، ووجد في أبنية المستشفيات أماناً جزئياً، ولذلك نرى أن مخيم جباليا يتلقى أقسى الضربات، لأن 75% من سكانه ما زالوا فيه، رغم الهجمات المجرمة المتكررة عليه بقصد تهجيرهم الى الجنوب، وهُم يرفضون.
وسط هذا الوضع لمقولة "مكانك راوح"، يستمر العدوان على المدنيين بقصد التهجير، وانتقاماً من ضربات المقاومة، رغم أن الشعب "الإسرائيلي" لا يحتمل الحروب الطويلة، وسط جمود اقتصادي على امتداد خارطة الاحتلال، وطلب الحكومة الصهيونية اقتراض ستة مليارات دولار، مع فوائد عالية، لتمويل هذه الحرب، وفق ما أوردت صحيفة "فايننشال تايم"، مع بحث حكومي جدِّي للاستغناء عن 43 ألف وظيفة مدنية وعسكرية، إضافة الى تسريح الاحتياط، فيما نتيجة العدوان كحصيلة أهداف هي صفر، ما دامت المقاومة تواجه جنود "جيش الدفاع" على مسافة صفرية في كل الجبهات.
قد يكون الخوف على مستقبل قيام الدولة الفلسطينية بجوار هكذا كيان عنصري بربري مبرَّراً، لكن لا شيء يُضاهي خوف المستوطنين وقلقهم على مستقبلهم في هذه الدولة المصطنعة، وقد يكون الكاتب الصهيوني الشهير "آري شبيت"، أفضل مَن عبَّر عن مكنونات الرعب الوجودي في مقالة على صفحات "هآرتس" العبرية تحت عنوان:
"إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة"، ومن مقالته نقتطف التالي:
"يبدو أننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حل معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال... اجتزنا نقطة اللاعودة، وإذا كان الوضع كذلك لا طعم للعيش في هذه البلاد.. وأضع إصبعي في عين نتانياهو وليبرمان والنازيين الجدد لأوقظهم من هذيانهم الصهيوني، لأن ليس ترامب وكوشنير وبايدن وأوباما وهيلاري كلينتون سينهون الاحتلال، وليست الأمم المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي سيوقفون الاستيطان، والقوة الوحيدة في العالم القادرة على إنقاذ "إسرائيل" من نفسها هم "الإسرائيليون" أنفسهم، وذلك بابتداع لغة سياسية جديدة تعترف بالواقع، وبأن الفلسطينيين متجذرون في هذه الأرض".
ونختم مع أهم ما ورد في مقالة الكاتب "شبيت":
ليس هناك شيء اسمه هيكل سليمان، وفق كل الدراسات اليهودية والغربية، وصهيونية أرض الميعاد كذبة كبيرة، وما على كل مستوطن "إسرائيلي" لديه جواز سفر ثانٍ سوى الرحيل الى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس.
وبدورنا نقول: مادامت هناك حكومات يمينية عنصرية في هكذا كيان، لا خيار أمام كل مستوطن يمتلك جواز سفرٍ ثانٍ سوى البحث عنه في درج خزانته، والاستعداد للرحيل إما الى البلاد التي نال منها جواز سفره هذا، وإما الرحيل الى الجحيم..