أقلام الثبات

المُعارضون له في الشارع "الإسرائيلي" يعتبرون أن بنيامين نتانياهو يتصرف بطيشٍ غير مسؤول منذ صفعة السابع من أكتوبر، وأنه يفتقد التوازن في مؤتمراته الصحفية، وفي مخاطبة العسكريين في جولاته الميدانية، فيما تلاحقه تظاهرات أهالي الأسرى من محيط منزله الى محيط وزارة الدفاع؛ حيث يعقد جلسات الحكومة المصغرة ومجلس الحرب، وبات يحمل على أكتافه وزر فشل الأجهزة العسكرية والاستخبارية، بعد أن اتهم قادتها بالتقصير ومن ثم اعتذر وارتضى الواقع الصادم؛ أنه المسؤول الأول والأكبر عن خيبة "جيش الدفاع"، الذي برأيه أخذ الكثير من الوقت "للقضاء على حماس"، ما استجلب حماسة خصومه، الذين بدأوا كتابة نعي رحيله عن رئاسة الحكومة وعن الحياة السياسية، بعد أن انهارت شعبيته الى الحدود الدنيا في استطلاعات الرأي المتتالية.

ومع التصدعات السياسية التي تشهدها حكومته، فهو يتصرف وكأنه راحل عن السلطة وأن المحاكمات بانتظاره، واكتفى بتوبيخ وزير التراث عميحاي إلياهو، بشأن ضرب غزة بـ"قنبلة نووية"، واعتبر أن تصريح هذا الوزير غير صحيح ومنفصل عن الواقع.

ثم اضطر نتنياهو الأحد الماضي إلى الرد على تصريحات وزير الزراعة آفي ديختر، بعد أن وضعه في موقف محرج، خصوصاً أن هذا الوزير كان رئيساً لجهاز "الشاباك"، واعتبر في مقابلة تلفزيونية أن ما يحصل للفلسطينيين في غزة "نكبة جديدة" تحل بهم في قطاع محاصَر وفقير.

الخلاصة التي نقرأها للعدوان المجرم على غزة والضفة الغربية وردت أيضاً على لسان المحلل السياسي في صحيفة يديعوت أحرونوت ناحوم برنياع:

"للأسف الشديد، لا يوجد انتصار في الأفق، وأقوال نتنياهو عن حرب لفترة طويلة هي بديل تسويقي لانتصار غير موجود، وحماس خدعتنا للمرّة الثانية، وتركتنا يوماً كاملاً نتوغّل على محورين، ثم فاجأتنا على ما يبدو بقوات النخبة، وهذه جثث جنودنا في شارع النصر، وعلى الطرقات.. يبدو أنّ قواتنا أمام خيارين: إما الانسحاب، أو الموت المذل"!

على أية حال، وبالنظر الى المواقف الدولية على المستويين الحكومي والشعبي في التضامن مع غزة، والمطالِبة بإجراء تحقيقات بجرائم الإبادة، وبصرف النظر عن نتائج القمة العربية والإسلامية في الرياض، فإن ثلاثة قياديين وجدوا أنفسهم في ورطة شخصية نتيجة الحرب على غزة: الرئيس الأميركي جو بايدن، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس حكومة العدو الصهيوني بنيامين نتانياهو.

الرئيس بايدن يناديه الرئيس السابق دونالد ترامب بالأحمق منذ تورط بمواجهة روسيا في أوكرانيا، وبمقارعة الصين في تايوان، ووجد نفسه ملزماً بتحقيق إنجاز على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل، ومن الطبيعي أن يكون مطواعاً للوبي اليهودي في بلاده، ولو أن العدوان على غزة أفقده تأييد الأميركيين من أصول عربية، لكن هذه الخسارة في الشعبية يتم تعويضها - وفق المراقبين - من قواعد لوبي صناعة وتجارة الأسلحة، الذي لا يقل أهمية عن أية قوة مؤسساتية على واقع الأرض الانتخابية، إضافة الى أن بايدن لا يستطيع التراجع عن تأييد "إسرائيل"، وهو ومعه بعض الغرب، يعتبرون حماس منظمة "إرهابية" اعتدت على مدنيين!

الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحكم جواره مع قطاع غزة عبر معبر رفح، يملك مفتاح هذا المعبر، لكنه لا يملك قرار فتحه وإقفاله، بدليل أن آلاف الأطنان من المساعدات مكدّسة على الجانب المصري في سيناء بانتظار سماح "إسرائيل" بدخول البعض منها، فيما السيسي يحمل المفتاح وينتظر السماح.

وليست المعضلة في أن السيسي يجد نفسه بين المطرقة والسدان بسبب "حمولة" مفتاح المعبر، مادام العرب لا يطالبونه علناً بفتحه، ورئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتَّه فقد الأمل من معبر رفح، وطالب بفتح معابر أخرى الى القطاع أو إنزال المساعدات من الجو، لأن الرئيس السيسي - وهو على أعتاب معركته الانتخابية - لديه أهم من مشكلة المعبر، لأن جنوب قطاع غزة سيصبح قنبلة بشرية على أعتاب رفح وسيناء إذا استمر "الترانسفير" البشري الذي يرتكبه العدو الصهيوني بحق فلسطينيي شمال القطاع، ومصر بحكم الجوار، موضوعة على رأس لائحة الدول التي يخطط الغرب مع الصهاينة لنقل الراغبين بمغادرة قطاع غزة إليها، وهذا ما يعتبره السيسي إنهاء للقضية الفلسطينية، وعبئاً لا تحمله مصر ولا يقبل به الشعب المصري.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن "الترانسفير" الفلسطيني الى جنوب القطاع يجب ألا تخشاه مصر ذات المئة وعشرة ملايين نسمة أكثر من "إسرائيل"، ومع ذلك، تطالب القاهرة بأن يكون الترانسفير المزعوم الى صحراء النقب بدلاً من سيناء، ليبقى الفلسطيني في أرضه، وتأمن "إسرائيل" على مستوطناتها، لكن كيف لكيان من بضعة ملايين من اليهود أن يتحمّل مليونين ومئتي ألف فلسطيني يضيق بهم كامل قطاع غزة عندما يحشرهم في جنوب القطاع، وهنا تكمن القنبلة الحقيقية التي يصنعها نتانياهو وحكومته العنصرية لمستقبل هكذا كيان.

وننتهي مع نتانياهو، الذي ينتظر نهاية حياته السياسية بعد انتهاء هذه الحرب أو قبل نهايتها، وقد أثبت أنه فعلاً أفضل صهيوني قادر على إيصال هذا الكيان الى الهاوية؛ كما يرى بعض اليسار "الإسرائيلي"، لأنه رغم الخسائر البشرية بين الجنود والمدنيين "الإسرائيليين"، والكوارث المالية التي تورطت بها حكومته (بما يُقدر بحوالي عشرين مليار دولار كلفة الحرب والجمود الاقتصادي) لا يقرأ أن حماس شعب ينبض بالحق، ولا يمكن قتل شعب حيّ بأكمله، وأن فلسطين قضية توارثتها أجيال بدماء الشهداء، وأن أخطر ما في هذا العدوان على غزة هو ولادة روح الثأر لدى الشعب الفلسطيني لأرواح الآلاف من الشهداء المدنيين، المرضى والعجزة والنساء والأطفال، وأن حركة حماس التي تحارب الآن بقذائف وصواريخ موجهة بالليزر، ستكون أخطر على هذا الكيان الصهيوني عندما يعود الشعب الفلسطيني الى لغة السكاكين، ولن يهنأ يهودي في الداخل والخارج من انتفاضة الانتقام الفلسطيني، مهما كانت نتائج هذه الحرب على كيانٍ مجرمٍ رأى العالم بأسره هول ارتكاباته، وسيندفع صاغراً الى إعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي بعد انتهاء مجزرة القرن.