أقلام الثبات
أطلق عليه الرئيس الأميركي الأسبق بل كلينتون اسم الدلع "بيبي"، والفلسطينيون يسمونه "عطا الله" كترجمة لكنيته نتانياهو، بينما يُطلق عليه الإسرائيليون لقب "الرئيس الكارثة"، في توصيفهم لقدرته على الاحتيال والتفلُّت من الأزمات ورمي التُّهم على سواه، فيما يعتبر الكثيرون من المخضرمين في اليسار الإسرائيلي، أنه الشخصية الصهيونية الأمثل لإيصال إسرائيل الى الهاوية. عندما أصدر بنيامين نتانياهو كتابه "مكان تحت الشمس" عام ١٩٩٣، قبل ثلاث سنوات من وصوله الى رئاسة الحكومة الصهيونية، اعتبره اليمينيون العنصريون والمتدينون المتشددون أنه اليهودي الواقعي المؤمن بالجذور الصهيونية، وواقعيته تنطلق من مقاربته لثلاثة أمور:
* التمسك بكل شبر من الأرض المحتلة، واستغلال الزراعية منها.
* تعزيز أمن الكيان الإسرائيلي لتشجيع اليهود على البقاء واستقدام مستوطنين جدد عبر مغريات الاستيطان المُرفَّه.
* تعزيز قدرات "جيش الدفاع الإسرائيلي" لترهيب الجوار الرافض لمبدأ التطبيع مع كيانه.
- الأرض يعتبرها نتانياهو من أساسيات الاقتصاد الصهيوني، بفضل الخصوبة ووفرة المياه، وأن المزارعين الكسالى قبل دخول اليهود أهملوها، وأنعشها قدوم اليهود الأوروبيين الذين نقلوا معهم التقنيات المتطورة في استصلاح الأراضي وتطوير الإنتاج، ولذلك يختلف نتانياهو مع معارضيه القائلين بمبدأ الأرض مقابل السلام مع العرب، وإصراره على مقولة السلام مقابل السلام، وضرورة التمسك بالجولان وضم الضفة الغربية وغور الأردن وكامل مدينة القدس، لكن الممارسات العنصرية في القدس للمستوطنين الموتورين، وتحديداً محيط المسجد الأقصى، وانتفاضات الفلسطينيين المتتالية لمواجهتها زعزعت الأمن الصهيوني.
- في موضوع الأمن، فقدت إسرائيل السيطرة على الأماكن المختلطة بين العرب واليهود، نتيجة عدوانية المستوطنين التي واجهها الفلسطينيون بالحجارة والسكاكين وصولاً الى المواجهات المسلحة.
- في مسألة قدرات "جيش الدفاع الإسرائيلي" وأحلام نتانياهو في تعزيزها كما ورد في كتابه، عمٍل لأجلها عند وصوله الى الحكم، لكنه لم يقرأ بدايات مغيب شمس "دولته" في العام ٢٠٠٠ عندما حرر لبنان بمقاومته رجس الاحتلال الصهيوني المتغطرس، ربما لأن إيهودا باراك كان يومذاك في الحكم، وأغفل نتانياهو هزيمة بلاده الثانية في لبنان عام ٢٠٠٦، ربما لأن إيهود اولمرت كان في الحكم يومذاك، لكن الإسرائيليين يُحمَِّلون نتانياهو مسؤولية فقدان هيبة الكيان أكثر من سواه، ربما لأنه رئيس الحكومة الأطول حكماً.
منذ أيام كتبت صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها ما خلاصته: "خسارتنا كل ثلاثة أيام من الحرب على حماس ٩١٢ مليون دولار، كمصاريف تشغيلية للعديد والعتاد، ناهيك عن تعطل الحركة التجارية وهبوط البورصة، وتوقُّف معظم المؤسسات والمرافق العامة، إضافة الى الكلفة العالية لإجلاء وإيواء وإطعام المستوطنين النازحين...".
وتضيف "هآرتس"، هذا نذير شؤم على الدولة، التي تأكد سياسيوها أنها فشلت استخباراتياً وعملياتياً، وأن سياساتها كانت تحتاج لأفق أبعد مما فكروا فيه، وما أنجزته حركة حماس بأيام عجزت عنه دول بكامل عتادها، ولم تجرؤ دولة على ما فعلته المقاومة الفلسطينية في أيام، وسقط القناع عن الجندي الإسرائيلي الذي لا يُخطف ولا يُقتل..."
ووسط التظاهرات التي كانت تطالب برحيله على خلفية ارتكاباته وتعدياته على سلطة القضاء، ينزل الإسرائيليون يومياً خلال الحرب مطالبين باستقالته وبإقصائه عن العمل السياسي، وتحميله كامل مسؤولية الفشل سياسياً وعسكرياً، ورفعت "الحركة الديمقراطية المدنية" مذكرة الى المستشارة القضائية للحكومة "غالي بهران مالي"، تتهم نتانياهو بإتلاف وثائق معلوماتية، وإحراق مستندات تدينه قبل هجوم حماس وبعده، وسط ارتفاع الصرخات في الشارع الإسرائيلي التي تحمله مسؤولية الفشل في آخر استطلاع أظهر نسبة ٧٥% ضد بقائه في الحكم مهما كانت نتيجة الحرب.
نعترف أن نتانياهو صهيوني المنشأ ويهودي واقعي، لكنه أغفل واقع التغييرات الدراماتيكية التي سوف تعجِّل في غياب شمسه وشمس كيانه الغاصب، هو الذي كان يستعجل التطبيع مع دول عربية ليست أصلاً من دول المواجهة، وغاب عن حساباته أن قوة إقليمية متعاظمة اسمها إيران سوف تكون نداً قوياً له، أذاقت كيانه عبر محور المقاومة ويل الهزائم في لبنان والآن في الداخل الفلسطيني، وقريباً ربما داخل المستوطنات الشمالية، لو طال امد الحرب وتمادى العدو في غطرسة فارغة يعرف أثمانها مع لبنان، الذي هدده نتانياهو بإعادته الى العصر الحجري، دون أن يضمن بقاء حجر على حجر في كيانه العنصري..