مقالات مختارة
ارتبط قيام كيان الاحتلال منذ أيار/مايو 1948 في فلسطين بترويع الشعب الفلسطيني من خلال الإبادة والقتل والتهجير والطرد ونفي وجوده وقضيته وإذابة حضوره في وعي الشعوب الحرة وذاكرتها، إلا أن ما أحدثته معركة "طوفان الأقصى" من تداعيات نسفت مساعي كيان الاحتلال وأهدافه، فالقتل والترويع والتهجير لم يجعل الشعب الفلسطيني يُسلّم ويستسلم ويرفع الراية، ووعي الشعوب الحرة ما زال حاضراً وحذراً ومتنبهاً لمخططات كيان الاحتلال الذي يريد فصل القضية الفلسطينية وعزلها عن محيطها وحاضنتها من الشعوب التي عانت وذاقت ويلات الاحتلال والاستعمار، وفي المركز منها الشعوب الأفريقية.
جاءت معركة "طوفان الأقصى" فيما كان كيان الاحتلال يتمدّد ويتوغّل في القارة الأفريقية من خلال اتفاقيات التطبيع، حتى كاد أن يمر حضوره وتُمرر روايته ويُقبل به، ولو على مضض. وقد هرول جنرالات السودان إلى التطبيع، وقبلهم المغرب، وكادت ليبيا تقع في المستنقع.
وتبجح رئيس وزراء كيان الاحتلال عدة مرات بأن عينه على أفريقيا، وبأن كيانه عائد إليها. وما إن حصحص الحق ووقعت معركة "طوفان الأقصى" حتى خرجت الشعوب الأفريقية وأعلنت موقفها وانحيازها إلى الشعب الفلسطيني وقضيته، وأعادت التقديرات الإسرائيلية إلى مربع الصفر الكبير، مؤكدة أن فلسطين قضية الشعوب الحرة.
ذهب كيان الاحتلال بعيداً في رهاناته على أن وهم التطبيع قد يروّض الشعوب الأفريقية أو يُبعدها عن القضية الفلسطينية. بدأ الوهم من المغرب الذي وقّع الاحتلال معه مجموعة اتفاقيات عسكرية ودفاعية واقتصادية، فإذا بالمدن المغربية تخرج عن بكرة أبيها معلنةً انحيازها ودفاعها ووقوفها نصرة للشعب الفلسطيني، منددةً بالمجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومطالبة "بإسقاط التطبيع" بين المغرب وكيان الاحتلال. وقد صدحت الحناجر بشعار: "الشعب المغربي مع طوفان الأقصى وضد التطبيع".
هذه المعادلة لم تكن في حسابات كيان الاحتلال، وكان ساسته يظنون أن بإمكانهم الاستفراد بالشعب الفلسطيني وقتله وذبحه من دون هبة شعبية مغربية، ظناً أن التطبيع روض وعي الشعوب وإرادتها، فجاء الرد من كل فج في المغرب، مردداً: "الشعب يريد تحرير فلسطين"، وهو الشعار الذي كاد يتلاشى منذ بدء تمدد اتفاقات "أبراهام" وسراب التطبيع المزعوم.
وقد كشفت وسائل إعلام عبرية عن هشاشة التطبيع عندما أعلنت أن كيان الاحتلال أجلى موظفي مكتب الاتصال الإسرائيلي في المغرب خشية التظاهرات الحاشدة التي بلغت 81 تظاهرة في 52 مدينة مغربية، مطالبين بقطع العلاقات المغربية مع كيان الاحتلال.
تمدّدت تداعيات معركة "طوفان الأقصى" إلى السودان الذي لم يشغله الصراع بين الجنرالات عن الاستدارة إلى القضية الفلسطينية، فخرجت التظاهرات في العاصمة الخرطوم منددةً بالمحرقة التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وردد المتظاهرون شعارات: "يا قسام يا حبيب دمّر دمّر تل أبيب"، رافعين لافتات ترفض التطبيع.
تدافعت مواقف الشعوب الأفريقية ووقفاتها وتظاهراتها في كل الميادين منحازة إلى الشعب الفلسطيني ومناصرة له، ومنددة بالمجازر التي يرتكبها كيان الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، من السنغال والصومال وجيبوتي وليبيا وتونس وموريتانيا والجزائر وغيرها من الدول الأفريقية، ما يعني عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة حتى باتت حاضرة في وعي وأولويات وأجندات الشعوب التي لم تشغلها قضاياها الداخلية عن القضية الفلسطينية.
إنَّ للحرب جبهات وساحات، والصورة والرواية وصراع الضحية والجلاد والمظلومية التي يدّعيها كيان الاحتلال هي ساحة من ساحات القتال في معركة "طوفان الأقصى". هذه التظاهرات والوقفات التي ترسمها الشعوب الأفريقية اليوم تعني أنَّ كيان الاحتلال فشل في كيِّ وعي الشعوب الأفريقية في تمرير روايته أو إمكانية قبوله والتعايش معه في وهم التطبيع.
إن تداعيات معركة "طوفان الأقصى" وما أحدثته في وعي الشعوب الأفريقية وفكرها لا تعكسها هذه التظاهرات المندّدة بالمحرقة الإسرائيلية والإبادة الجماعية فقط، بقدر ما تعني في المقابل أنَّ فلسطين وشعبها وقضيتها التي عمل كيان الاحتلال على تذويبها ونفيها حاضرة، ولا يمكن أن تذوب أو تتلاشى.
معركة "طوفان الأقصى" تعني أن العواصم الأفريقية التي اخترقها كيان الاحتلال من خلال وهم التطبيع استفاقت على وقع جرائم الحرب التي تُرتكب على مدار الساعة في قطاع غزة ضد الأطفال والنساء والأبرياء، وبالتالي فإنَّ كياناً بهذه الوحشية لا يمكن التطبيع معه والقبول به.
إنّ كلّ ما أنتجته الرواية الإسرائيلية عن واحة الديمقراطية المنفردة في المنطقة تبخّر على وقع هذه الجرائم، والشعوب الأفريقية اكتوت بنيران الاحتلال وجرّبتها، وهي تدرك التدليس الذي تحاول "تل أبيب" تمريره، وبالتالي لا يمكن اختراق وعيها مرة أخرى.
الجنرالات الذين راهنوا على أن كيان الاحتلال ينفرد بالقدرات العسكرية والأمنية والاستخباراتية وبرامج التجسس، وأنه قادر على دعم هؤلاء وحمايتهم، يرون اليوم تبعات الهزيمة التي حققتها المقاومة في معركة "طوفان الأقصى". وقطعاً، لا يمكنهم الرهان على مقدرات الوهم والتضحية بكل التبعات الداخلية في مقابل التطبيع مع كيان الاحتلال.
إن استدارة الشعوب الأفريقية إلى القضية الفلسطينية جاءت في توقيت وبيئة أفريقية غاية في الأهمية، ملمحها الأبرز رفض استمرار وصاية الاستعمار الغربي، وسرقته مقدرات أفريقيا، وانزواء الحضور الفرنسي، ما يعني في وعي هذه الشعوب وتجربتها أنّ إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ممكن، وأن انحيازها ودعمها للشعب الفلسطيني نابع من تجربة ومن إدراك حقيقي بأن الاستعمار والاحتلال إلى زوال.
معركة "طوفان الأقصى" تعني في تداعياتها الأفريقية أن تسلل كيان الاحتلال لاختراق الاتحاد الأفريقي لم يعد ممكناً أو متاحاً، وتعني أن التسلل بالتطبيع إلى عواصم أفريقية جديدة بات صعباً، بل ربما صار مستحيلاً. وهنا، تصبح الضربة لنتنياهو ضربتين؛ الأولى هزيمة عسكرية في غزة، والأخرى خسارة سياسية في أفريقيا.
ستبذل "تل أبيب" جهداً كبيراً ومضاعفاً ومزمناً وطويلاً من أجل أن تُقنع شعوب القارة الأفريقية بأنها ليست كياناً استعمارياً احتلالياً إحلالياً مجرماً يقوم على جرائم الإبادة ويتغذى على الحرب، بعدما أعادت معركة "طوفان الأقصى" إلى الشعوب وذاكرتها الصورة الحقيقية لطبيعة هذا الكيان المغتصب لأرض فلسطين، والذي يستوطنها بالقوة والقتل.
لقد أفضت معركة "طوفان الأقصى" إلى قراءة معمقة في وجدان الشعوب الأفريقية، ملمحها أن المقاومة الفلسطينية ستنتصر، وأن ما حدث سيكون له ما بعده في مجريات الصراع، وهو ما عبرت عنه جمعية العلماء المسلمين في الجزائر في تأكيدها أن ما حدث في "معركة طوفان الأقصى يمثل تحولاً استراتيجياً في العلاقة بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال".
اللافت في انتصار الشعوب الأفريقية للقضية الفلسطينية في معركة "طوفان الأقصى" كان حاضراً في موقف ومباركة التحالف الوطني لدعم فلسطين في السنغال، وقوله: "إنّ عملية "طوفان الأقصى" زلزلت كيان العدو الصهيوني الغاشم الغاصب، وأربكت كل حساباته وحسابات كل من يقف خلفه ويسانده في عدوانه".
إن أهم تداعيات معركة "طوفان الأقصى" في وعي وذاكرة الشعوب الأفريقية والعربية هو الارتباط حد التطابق والتماهي في الخداع الاستراتيجي الذي كان حاضراً في البعد الأمني والاستخباراتي والعملياتي بين هجوم معركة "طوفان الأقصى" وحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. وقد تزامنت معركة "طوفان الأقصى" مع الذكرى الخمسين للهجوم المباغت الذي شنّته مصر وسوريا على "إسرائيل" عام 1973 في "يوم الغفران".
إنّ معركة "طوفان الأقصى" لم توقظ القضية الفلسطينية لدى الشعوب الأفريقية فحسب، لكنها كشفت زيف الادعاء الإسرائيلي وعرّته وفضحت إجرامه أيضاً، وإن هزيمة كيان الاحتلال في هذه المعركة لم تقتصر على الأبعاد العسكرية والأمنية في الجغرافيا الفلسطينية، بل تجاوزتها في معادلة يمكن وصفها بأن كيان الاحتلال خسر أفريقيا الرسمية والشعبية في مقابل حضور القضية الفلسطينية.
ثابت العمور ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً