أقلام الثبات
ننأى بأنفسنا عن البُعد الديني في وثيقة الأخوَّة الإنسانية بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، التي وقَّعها البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر أحمد الطيب، خلال زيارة بابا الفاتيكان لدولة الإمارات عام ٢٠١٩، وتمّ على أثرها بناء "بيت العائلة الإبراهيمية" في مدينة أبو ظبي، وهو مجمَّع ديني، يضمّ كنيس "موسى بن ميمون"، وكنيسة "القديس فرنسيس"، ومسجد "الإمام الطيب"، ومع نشأة التطبيع بين دولة الإمارات و"إسرائيل" في واشنطن عام ٢٠٢٠، التحقت البحرين بالركب تحت مُسمَّى "الاتفاقيات الإبراهيمية".
وكي لا نُحمِّل إبراهيم(عليه السلام) وزر أفعالنا الدنيوية، سواء كانت للخير أو للشر، فإن التطبيع العربي حاصل قبل إحياء فكرة هذه الوحدة الإبراهيمية، وكاد يحصل بعدها، لولا موقف المملكة العربية السعودية بوجوب تحقيق حل الدولتين قبل دخولها مسلسل التطبيع، الى أن حصل "طوفان الأقصى" الذي فاق في ارتداداته ونتائجه كل الزلازل والفيضانات التي شهدتها وتشهدها الكرة الأرضية في الزمن المعاصر!
كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، لم تحقق ولن تحقق قيراطاً مما تم إنجازه يوم السبت في السابع من تشرين الأول الجاري، لا بل بالعكس، كل تطبيع كان مسماراً في نعش ما تسمى عروبة، إذا كانت ما زالت تعتبر أن قضية فلسطين هي الجامعة للعرب، ولو أنها جمعتهم في جامعة سلاحها التنديد!
ولأن عرب التطبيع لا يقرأون ما يحصل في فلسطين من بطولات، ولا يرون أشلاء أطفال غزة، ولا يسمعون صرخات الثكالى، شأنهم في فقدان كل الحواس سابقاً مع لبنان وسوريا والداخل الفلسطيني، نقرأ من باب الفضول، الترجمة العربية لكلمات نشيد دولة الكيان الصهيوني، الذي يُعزف في الاحتفالات والاستقبالات ويُطرب له ربما بعض القادة العرب:
-طالما تكمن في القلب نفسٌ يهودية،
تتوق للأمام نحو الشرق،
أملنا لم يُصنع بعد،
حلم ألف عام على أرضنا،
أرض صهيون وأورشليم،
ليرتعد من هو عدو لنا،
ليرتعد كل سكان مصر وكنعان،
ليرتعد سكان بابل،
ليخيِّم على سمائهم الذعر والرعب منا،
حين نغرس رماحنا في صدورهم،
ونرى دماءهم تُراق،
ورؤوسهم مقطوعة،
وعندئذٍ نكون شعب الله المختار، حيث أراد الله...
وللأمانة، تتحدث مواقع البحث أن هناك لغطاً في الترجمة من العبرية الى العربية، وأن "إسرائيل" لا تنظر إلى دول الجوار بهذا الحقد ولكن، ما لنا وما لهكذا نشيد، ما دمنا نقرأه حرفياً على الأرض منذ العام ١٩٤٨، في وجه كل طفلٍ مقهور، وكل أبٍ مكسور، وعلى خدِّ كل أمٍ عَبراتها نُغني عن عبارات كل الأناشيد!
على أية حال، طاف الأقصى أخيراً، وطوفانه لغاية الآن غيضٌ من فيض،
وإذا كانت المعركة الآن بين حفيديُ إبراهيم إسحق اليهودي وإسماعيل العربي، فما شأن سام الأميركي جو بايدن، في تأجيج العنصرية اليهودية من خلال خطاب انتخابي مفضوح، يطلب فيه رضى اللوبي الصهيوني مع إرسال الحاملة "جيرالد فورد" الى المنطقة، وهل يتحمل بايدن الآن مسؤولية العداء بين اليهود والعرب في بلاده بعد هكذا خطاب؟، نحن لا نعتقد، لا بل نتوقع صدامات جماهيرية بين العرب واليهود داخل كل دولة محرِّضة للعدوان المجرم على غزة.
وبالعودة الى الداخل الفلسطيني المحتل، ووسط الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وما سمعه من البلدان العربية حتى التي هي في حالة تطبيع مع إسرائيل، عاد الى تل أبيب بقرار عربي موحد: دخول شاحنات الإغاثة الى غزة، وهذا ما يعتبر الهزيمة الثانية لناتنياهو لصالح أبناء غزة، مع تصاعد ثورة المستوطنين داخل الكيان المُطالِبة برحيله.
واللافت في الحركة الأميركية، حصل خلال زيارة وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي نقل عواطف رئيسه تجاه اليهود، مما أعطى جرعة ترياق لنظيره الإسرائيلي يوآف غالنت، الذي قال في المؤتمر الصحفي المشترك أن كل طفل إسرائيلي يُولد وفي دمائه الحمض النووي اليهودي ولكن، لا حاملات الطائرات ولا شحنات الأسلحة الأميركية قادرة على حماية أطفال اليهود ما دام أطفال فلسطين دماؤهم مهدورة، والصهينة اليهودية لن تنفع في مسألة معالجة قضية قطاع غزة، لأن الداخل الى هذا القطاع مفقود وما يتم تحضيره تحت الأرض لم يذُق منه الصهيوني لغاية الآن ما ذاقه فوق الأرض، وقد أحسن بايدن في مخاوفه من اجتياح أو محاولة احتلال لقطاع غزة، لأنه يدرك ربما ما لا يدركه الأحمق نتانياهو، من مخاطر مؤامرة "ترانسفير" جديدة نحو سيناء يرفضها الفلسطينيون بشكلٍ قاطع.
قطاع غزة ذا المساحة التي تبلغ ٣٦٠ كيلومتراً مربعاً يسكنه نحو مليونين ومئتي ألف نسمة، وغلاف غزة كناية عن ثلاثة "كيبوتسات" تتضمن عشرات المستوطنات بمساحة إجمالية ٣٨٠ كيلومتراً مربعاً وعدد سكانها من المستوطنين نحو سبعين ألفاً، وهنا تكمن القنبلة المستقبلية التي قد تنفجر في أية لحظة، نتيجة نفس المساحة الجغرافية التي تخنق الفلسطينيين داخل القطاع، وفي جوارهم غلاف من الرفاهية الصهيونية على أرضهم المحتلة، ومَن يطرحون فكرة إفراغ شمالي القطاع وتهجير سكانه الى جنوبه فإنهم مجانين عَظَمة فارغة، ويستعجلون آخرة هذا الكيان الذي أرادوه جسماً غريباً ليس في مجاورة إسحق اليهودي لإسماعيل العربي، بل في قايين الصهيوني وهابيل العربي الذي يهرول للتطبيع.