مقالات مختارة
انتهيت في مقالي السابق حول "محور المقاومة وحرب تشرين... إعادة صياغة عوامل النصر" إلى خلاصة مفادها أنّ الهزيمة الكبرى للكيان الإسرائيلي لم تعد محكومة إلا لعامل واحد هو الوقت، إذ أنجزت قوى المقاومة البناء التحتي الضروري لتحقيق هدفها، انطلاقاً من الإعداد التنظيمي، وصولاً إلى اللوجستي المتعلق بالتسليح، ومروراً بما هو أهم، أي كل ما يتعلق بالإعداد الأيديولوجي العقائدي.
وإذا كان من الممكن اعتبار طوفان الأقصى دليلاً عملياً على ما تقدم، انطلاقاً من تطور المشروع المقاوم من فعل محدود يستهدف مجرد الصمود وردّ العدوان من خلال عمل دفاعي، كزرع عبوة أو اقتحام موقع أو إطلاق صلية من الصواريخ، إلى ما يمكن توصيفه بمبادرة هجومية متكاملة الأبعاد تجمع في طياتها بين الهجوم البري والبحري والجوي، وتهدف إلى تحقيق هدف استراتيجي لا يرتبط بتحقيق انتصار موضعي، فإن الآثار المرتقبة لهذا الطوفان لن تنحصر في مكان وزمان يحدّهما تفاهم أو اتفاق لوقف النار قد يؤسّس لمفاوضات حول تبادل الأسرى والمعتقلين، إنما ستمتد تلك الآثار لتعيد رسم الأطر والمفاهيم التي حكمت محددات الصراع بين الطرفين، أي محور المقاومة من جهة، والكيان الإسرائيلي وداعميه من جهة أخرى.
حتى هذه اللحظة، ما زالت قيادة الكيان الإسرائيلي تكابر في تعاطيها مع التحولات التي سببتها "طوفان الأقصى"، إذ إنها تحاول ترميم صورتها النفسية والعسكرية التي تهشمت مع سقوط نظريتها الأمنية على حدود غزة، فالتصريحات الإسرائيلية لم تخرج حتى اللحظة عن إطار الانتقام وإثبات تفوق "الجيش" الإسرائيلي من خلال ادعاء قدرته على توجيه المعركة وفق ما يناسبه، إذ تعمل على ضمان غطاء دولي يطلق يده في المعركة ويقيد أو يعرقل أي تدخل لقوى المقاومة إلى جانب الفصائل المقاومة في غزة.
وفي هذا الإطار، يظهر أن القيادة السياسية الإسرائيلية تستهدف تغيير عنوان المعركة بما يمكّنها من ادعاء تحقيق إنجازات تمحو الصورة السيئة التي رسمتها "طوفان الأقصى"؛ فمن خلال ذلك، يمكن لها أن تلتف على إنجاز المقاومة الذي تمثل بالعبور إلى الأراضي المحتلة وتوجيه ضربة قاسية إلى فرقة غزة والمستوطنين، لتحاول استعادة هيبتها الضرورية للحفاظ على مكانتها كشريك استراتيجي موثوق لدى الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وضمان استمرار مسار التطبيع العربي معها من جهة ثانية، إذ إن قوتها وإمكاناتها الردعية كانت من أهم الدوافع لهرولة الأنظمة العربية نحوها.
وبدلاً من محاولة ترميم الردع من خلال العمل على إعادة الأمن إلى المستوطنات والتعاطي مع موازين القوى المستجدة بواقعية، رفعت القيادة السياسية سقف أهدافها إلى مستوى العمل على كسر المقاومة في غزة وفرض معطيات جديدة تترك أثراً لأكثر من 50 عاماً، على حد زعمها.
وإذا كان هذا الهدف يدلّ على حجم الجرح الذي سببته قوى المقاومة في جسد الكيان ونفوس مستوطنيه وحلفائه في المنطقة والعالم، فإن في إعلان نتنياهو نيته تهجير كل سكان قطاع غزة إلى سيناء أو نيته الدخول في عملية برية يؤكد الجيش عدم قدرته على تحمّل وزرها، دليلاً على حجم تخبط القيادة داخلياً، إذ يمكن تقدير رفع سقف الأهداف في إطار محاولة تحشيد الدعم انطلاقاً من محاولة إثارة مشاعر مستوطني الكيان وسياسييه وغرائزهم.
وفي هذا الإطار، يظهر هذا التوجّه حنيناً إسرائيلياً إلى العودة إلى توازنات مرحلة ما قبل الطوفان، إذ كانت المعارك السابقة تتصف بمبادرة إسرائيلية وبرد فعل مقاوم يستهدف منع العدوان من تحقيق أهدافه، فكثافة النيران والتركيز على استهداف المدنيين الآمنين في القطاع يؤكدان مسعى الكيان للالتفاف على إنجاز الطوفان ومحاولة تحقيق ما عجز عن تحقيقه في معاركه السابقة.
وإذا كان الكيان الإسرائيلي يمنّي نفسه بالتفوّق الجوي والتدميري، وبادعاء قدرته على تحديد مسار المعركة وقرار استمرارها من عدمه، وثقته بقدرته على إنهائها وفق تقديراته، فإنَّ الولايات المتحدة ظهرت أكثر واقعية في تعاطيها مع الأحداث، فالدفع باتجاه تشكيل حكومة طوارئ تستثني من يحرج الولايات المتحدة في مجاهرته بالتطرف والعمل على حشد الدعم الدولي للكيان وتغطية المجازر التي يرتكبها بحق المدنيين ومنع صدور أي إدانة له، إضافة إلى الضغوط التي يمارسها على دول المنطقة وإرسال حاملة طائرات بهدف منع تدخل قواها المقاومة في المعركة، يؤكّد أن أولى نتائج "طوفان الأقصى" هي تغير النظرة الأميركية إلى الكيان الإسرائيلي، إذ تحول من ركيزة أساسية وأداة فاعلة موثوقة في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط إلى حليف عادي يتطلب حماية واهتماماً استثنائيين حتى يتفادى السقوط.
من ناحية أخرى، إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد نجحت في تحييد معظم الأنظمة العربية عن قضية فلسطين، من خلال المساعي التي بذلتها لتطبيع علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي، فإن موقف هذه الأنظمة الحيادي علناً والمتماهي إلى حد التضامن والتكافل المعنوي مع الكيان الإسرائيلي لم يقدم لهذا الأخير أي مساحة أمان إضافية.
وبالتالي، فإن نتائج الطوفان ستظهر حاجة الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي إلى الدفع نحو تعميق التكامل الاستراتيجي بين الأخير وهذه الأنظمة؛ فنجاح الولايات المتحدة الأميركية في تكريس الانفصال بين أكثر الأنظمة العربية والمقاومة والتحريض على عزلها وإضعافها، وذلك من خلال التسويق لتبعيتها للجمهورية الإسلامية ومشروعها من جهة، وإغراء الأنظمة المطبعة باتفاقيات أمنية مميزة معها من جهة أخرى، لم يساعد في تقييد فصائل المقاومة أو ردعها.
وبالتالي، سيدفع هذا الواقع باتجاه تشبيك العلاقة الأمنية بين تلك الأنظمة والكيان الإسرائيلي بشكل مباشر، بما يجعل انغماسها في أي مواجهة مستقبلية بين المقاومة والكيان أمراً ممكناً.
وبناء عليه، أظهرت "طوفان الأقصى" في نتائجها الأولية التي لن تتأثر بوقف إطلاق النار، الذي يظهر أنه لن يكون قريباً، انتفاء وجود منطقة رمادية تناور الأنظمة المطبعة من خلالها، إذ أضحى الموقف من المعركة الحالية والمقاومة في غزة بمنزلة صراط يفصل بين محورين.
أما الضغوط الأميركية التي مورست في الأيام الأخيرة من أجل ضمان عدم إطلاق أي موقف عربي تضامني مع غزة، وكذلك تجنب أي سلوك شعبي أو رسمي قد يُفهم على أنه موجه ضد الكيان، فإنهما سيؤسسان في المستقبل لمرحلة تظهر فيها العلاقة بين تلك الأنظمة والكيان أكثر تكاملاً واندماجاً، وذلك تحت رعاية أميركية مباشرة.
وبالتالي، فإن مقاربة مسألة انغماس الولايات المتحدة مباشرة في هذه المعركة وعملها على ضمان التزام عربي بمساراتها الاستراتيجية ستظهر قناعة أميركية بفقدان مكانة الكيان الإسرائيلي كشريك موثوق قادر بمفرده على إدارة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، إضافة إلى فشله في مواجهة مشروع الممانعة الممتد من الجمهورية الإسلامية إلى غزة مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. وبناء عليه، فقد حولت "طوفان الأقصى" الكيان الإسرائيلي من حليف قادر على حماية المصالح الأميركية وضمانها إلى محمية أميركية تعاني في ظل تماسك أعدائها وتوحّدهم.
وسام إسماعيل ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً