مقالات مختارة
"تماماً كما فُتحت نوافذ بيت دانيال باتجاه القدس، كذلك في الرياض، تمكّنّا من الصلاة والنوافذ مفتوحة في اتجاه القدس". هكذا تفاخر الوفد الإسرائيلي الذي يزور الرياض بقيادة وزير الاتصالات الليكودي المتدين شلومو كرعي للمشاركة في المؤتمر الاستثنائي للاتحاد البريدي العالمي لعام 2023، أو هكذا تم تمرير ثاني زيارة إسرائيلية رسمية للرياض خلال أسبوع.
وقد أتمّ أفراد الوفد الإسرائيلي طقوس عيدهم بالقراءة من لفافة صغيرة للتوراة قدّمها لهم "يهودي محلي". كانت اللفافة ملفوفة بغلاف من اللباد، مع تطريز باللغات الإنكليزية والعبرية والعربية لعبارة: "الطائفة اليهودية، المملكة العربية السعودية"، وتضمنت إهداء باللغة العبرية إلى "الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد محمد بن سلمان وجميع وزرائه ومستشاريه".
لماذا حرص الوفد الإسرائيلي في زيارته الرياض على إقامة هذه الطقوس التوراتية؟ أهي واجبات دينية إجبارية باعتبار أن الزائر يتحدر من خلفية دينية أم أن مشاركة كل أعضاء الوفد في الطقوس مع الحرص على بثها بشكل صارخ يكشف مقاصد تتجاوز الشعيرة الدينية لما هو البعد السياسي والتاريخي بمنظور الصراع الديني؟
عند التدقيق في خطاب الوفد الإسرائيلي المتصل بهذه الشعيرة عبر ربط الرياض بالقدس وهي تحت التهويد، وليس مجرد الاحتلال، ثم الإشارة إلى هذا اليهودي المحلي والطائفة اليهودية في المملكة، في وقت لا يخفى عدم وجود طائفة كهذه في المملكة، فإن الأطماع الإسرائيلية تطلّ من تحت مظلة العرش، كما من تحت لفائف اللباد التي تدثر بها هؤلاء في طقوسهم، وبالمحصلة بما يفتح باب الشره الصهيوني للماضي اليهودي في خيبر على مصراعيه.
إنها خيبر تنهض في قلب الحجاز، ولا فرق سواء كانت تحت مظلة كجزء من طقوس يهودية أو كانت قلاع خيبر السبع التي ما زالت ماثلة للعيان، ولم يدخل إليها تغيير ولا مجرد تعديل مقارنة بمستوى التشويه العصري لتاريخية الإرث الإسلامي في مكة والمدينة، والذي سارع إليه حكام الحجاز بعد تحالفهم مع الحركة الوهابية تحت دعوى تجريد التوحيد الذي تصنّم دون أبواب خيبر والدرعية.
ليست السعودية مملكة البحرين ولا دولة الإمارات في التطبيع الإبراهيمي أو حتى الديانة الإبراهيمية، ولو تجسدت عبر بيت عبادي ضخم فخم يضم في جنباته مسجداً وجهته مكة، وكنيسة وجهتها الشرق، وكنيساً وجهته القدس. إنها السعودية خلاصة الوضع العربي الإسلامي الراهن في بعديه الديني والسياسي.
إنها السعودية، حيث الركن الإسلامي الخامس، بالحج لمن استطاع إليه من المسلمين سبيلاً، وحيث مكة مهبط الوحي، والمدينة مهوى الفؤاد، وهي منذ أن وضع القائد القبلي العسكري محمد بن سعود يده في يد الزعيم السلفي محمد بن عبد الوهاب تولت زمام المنطقة العربية بشرعية إسلامية، وقد نجح تحالفهما في بسط نفوذه على شبه الجزيرة العربية مع غارات لا تتوقف على الهلال الخصيب في العراق والشام، بما أبقاه تحت تهديدها الدائم في فترة التشكل.
تأتي خصوصية السعودية بخلفيتها التاريخية، وفيها أطماع يهودية شجعت باحثاً في التاريخ في جامعة حيفا، وهو مئير مصري، على أن يأخذ صورة لقلاع خيبر، ويسلط الضوء على أحد بيوتها التي ما زالت تحتفظ بملمحها التاريخي، ليقول: هذا بيت جدتي، وما زال المفتاح معي، أطالب بحق العودة، في وقت طالبت صحيفة "يسرائيل هيوم" بالسماح لصحافييها بزيارة خيبر باعتبارها مدينة يهودية، وفي وقت يعمل في مقابرها فريق تنقيب أثري فرنسي بهدف تعقب سلاسل عظمية تعود إلى نحو 5000 عام.
يتداخل التاريخ بالدين في صراعنا كعرب ومسلمين مع المشروع الصهيوني المتحالف مع الهيمنة الغربية، وهو تداخل حاولت معه نخبنا المتعلمنة النأي بنا كأمة عنه، لتأخذنا نحو هوامش القومية والقطرية بخلفيات الثقافة الأوروبية بنسختها الاستبدادية الكسيحة، فيما حافظ اليساري بن غوريون، وهو أبرز مؤسسي الكيان الإسرائيلي، ومعه كل التيار الليبرالي الإسرائيلي، وليس الديني المتطرف فحسب، على هذا التداخل بين التاريخ والدين، وإن عبر الزيف الأسطوري. وقد احتفى بن غوريون بتحويله إلى حقيقة عبر القوة والخداع والحلف مع الشيطان.
ولأن الدين تاريخي بطبعه، في وقت خُتمت الرسالات السماوية بالتوحيد الإسلامي عبر البعثة المحمدية، وصار اليهود والنصارى بالعرف الإسلامي أهل كتاب، فإن حساسية هذا التداخل تأخذ كل أبعادها عند الحديث عن مكة والمدينة والقدس، فكيف والحال أن القدس صارت بالعقيدة الإسرائيلية الأميركية عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي؟ فيما تنقاد السعودية اليوم نحو تطبيع يتنامى رويداً رويداً مع هذا الكيان الذي يقوده ائتلاف يميني ديني متطرف وغير مسبوق في تاريخه، من حيث نظرته وسلوكه تجاه العرب.
تأتي طقوس صلاة العرش اليوم على أرض الحجاز لتتجاوز خطورة زيارة الوفد الإسرائيلي الحالي والسابق، ولتلخص إشكالية الدين والتاريخ في الصراع ضد أمتنا الإسلامية، ذلك أن هذه الطقوس تاريخية في أصلها، وهي تجسد رحلة التيه اليهودي والبحث عن النجاة من كثبان صحراء سيناء نحو فلسطين، وهو تيه ظل مصاحباً للشعور اليهودي حتى في النسخة الإسرائيلية الصهيونية المعاصرة.
"العرش" الإسرائيلي في الرياض يراد له بكل رمزية المظلة وعمودي النور والضباب مع لفافات التوراة "المحلية" لـ"لطائفة اليهودية في المملكة" أن يضع حداً لحالة الضياع الغائرة في العقل الجمعي اليهودي، وهنا على حساب الإسلام، وليس على حساب الشعب الفلسطيني وعامة العرب والمسلمين فحسب.
يراد له أن يضع المدماك الأول نحو جَسْر الفجوة العميقة في الوجدان اليهودي المتصهين، فلا شرعية لهذا الكيان في هذا البحر الإسلاميّ المتلاطم من دون رمزية الإسلام، فقد طبّع النظام العربي عبر مصر، وطبّعت المؤسسة الفلسطينية الرسمية عبر منظمة التحرير، ولكن من دون طائل.
لا يزال العرب، كما الفلسطينيون، في وادٍ، والتطبيع الرسمي في وادٍ، ومونديال الدوحة خير مثال، كما المواجهات المتصاعدة مع الشعب الفلسطيني بخلاف رغبة السلطة، على فشل التطبيع في حل مشكلة الشرعية لهذا الكيان. لهذا يجمع الفرقاء في "تل أبيب" اليوم على أولوية التطبيع مع الرياض، باعتبار ذلك تحوّلاً تاريخياً هائلاً، ليس بسبب الاقتصاد والتجارة، على أهميتهما، لكنها عقدة غياب الشرعية، فهل يجدها نتنياهو في خيبر؟
تجاوز عقدة الشرعية الإسرائيلية أو الوصول إلى اتفاقية تطبيع سياسي بين الرياض و"تل أبيب". هذا ما يمكن تحقيقه في الشهور المقبلة، وهي الشهور التي رأى وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان أنها تمضي بالطرفين نحو أضخم اتفاق عالمي منذ انتهاء الحرب الباردة (1947-1991). لذا، هو بالتأكيد اتفاق، إن حصل، يتجاوز البعد السياسي والاقتصادي، وكله على حساب ما تمثله السعودية من رمزية دينية تاريخية لما هو محاولة حسم الصراع في جوهره الديني.
محمد جرادات ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً