أقلام الثبات
ليس هناك ما هو بعيد عن العقل والمنطق، من تعامل الحكومة اللبنانية وأجهزتها العسكرية والأمنية، مع قضية الهجرة عبر البحر، نحو البلدان الأوروبية، التي يقوم بها لبنانيون ولاجئون فلسطينيون ونازحون سوريون. فما يجري حمّال أوجه، يتراوح بين الغباء أو التآمر إلى حد الخيانة، مثلما هو التناقض الصارخ بين الدمج والتوطين من جهة؛ وبين التمسك بحق وواجب العودة للنازح واللاجيء، من جهة ثانية.
فما يسمى "الهجرة غير الشرعية"، هي إجمالاً، هروب ومغادرة لبنان عبر قوارب غير مستوفية الشروط، تستعمل مثيلاتها في كل أصقاع العالم، لتنفيذ هجرات جماعية، يهرب فيها أشخاص من واقع غير مقبول، إلى بلدان إعتادت على إستقبال مهاجرين، خصوصاً تلك البلدان التي سبق لها أن إستعمرت بلدان المهاجرين، أو إحتلتها، في مرحلة معينة، مما أوجد شبه حالة تعارف بين القاصد والمقصود، أي بين من مارس فعل الإحتلال؛ وبين من وقع عليه هذا الفعل. وفي وجه آخر، بين من يريد أيد عاملة رخيصة، في مرحلة معينة، ثم يتذمر من طوفانها عليه؛ وبين الباحث عن عمل.
والغريب، أن تقوم السلطات اللبنانية وأجهزتها العسكرية والأمنية، بتقديم خدمات مجانية للدول الغربية، عبر حمايتها ومنع المهاجرين من ركوب البحر والتوجه إلى تلك الدول. وكأن الحكومة اللبنانية وجيشها وقوى أمنها، يعملون عن وعي، أو من دون وعي، على تسهيل الطريق أمام ما تحاول الدول الغربية فرضه على لبنان؛ وقد بات معروفاً للقاصي والداني؛ وهو: توطين اللاجئين الفلسطينيين؛ ودمج النازحين السوريين في البيئات التي إستقبلتهم.
وهجرة الفلسطيني من لبنان، باعتباره بلد عبور وليس بلد توطين، كما أنه لا يوفر له العيش الكريم في مخيمات اللجوء، فيما أصوات مسؤوليه ومواطنيه، ترفض فكرة التوطين وتتمسك بحق عودة الفلسطيني إلى أرضه وبيته ووطنه، الذي إحتله الغزاة الصهاينة، تستدعي أن تسهل السلطات اللبنانية المدنية والعسكرية تلك الهجرة، باعتبارها عامل ضغط على الدول الأوروبية، لتعترف بالحق الفلسطيني وأوله حق العودة، خصوصاً أن تلك الدول مسؤولة عن نكبة الشعب الفلسطيني وعن إنشاء الكيان الصهيوني الغاصب. وكذلك، باعتبار تلك الهجرة إحدى عناصر مقاومة ورفض التوطين في لبنان، الذي يريده العدو "الإسرائيلي" ومن يدعمه إقليمياً ودولياً، لأن التوطين يعني الغاء القضية الفلسطينية وتكريس وجود الكيان "الإسرائيلي" غير الشرعي. فهل حقاً أن السلطات اللبنانية وقواها العسكرية والأمنية، ضد توطين الفلسطينيين في لبنان، أم هي على نسق كل سياساتها وأفعالها، أداة طيعة ومنفذة للمشيئة الأميركية والغربية، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية اللبنانية؟
والأمر نفسه، بالنسبة للنازحين السوريين، الذين تتحمل الدول الغربية والولايات المتحدة وتركيا وبعض دول الخليج، القسم الأكبر من مسؤولية الحرب التي شنت على سورية، خلال السنوات العشر الماضية، فهل من المنطقي منع المواطن السوري من الهجرة إلى بلدان الفتنة تلك، لتتحمل مسؤولياتها تجاه المأساة التي يعيشها السوريون، فتكون وظيفة الحكومة اللبنانية وأجهزتها، العمل كحارس على الحدود البحرية لتلك الدول الغربية، على الرغم من إرتفاع الأصوات بالشكوى من كثافة النزوح السوري وأخطاره على التركيبة اللبنانية، حتى وصفه البعض بأنه خطر وجودي، فهل تخفيف هذا العبىء وأخطاره يكون بمنع السوريين من الهجرة إلى البلدان الأوروبية، بما يعني البقاء في لبنان خلال هذه المرحلة. وما هو الثمن غير الملموس، الذي تحصل عليه السلطات اللبنانية وأجهزتها والقائمين على تلك الجهزة، لقاء هذه الوظيفة؟
أما اللبناني، فكل أعمال وسياسات وقرارت الحكومات اللبنانية، أدت إلى إفقاره وتجويعه وضرب القدرة الشرائية لعملته الوطنية، فهي ترفض تحسين دخله ورواتبه؛ وتحمي المصارف التي إستولت على أمواله وصادرت مدخراته؛ وضاعفت الضرائب المفروضة عليه عشرات المرات؛ وسلمت البلاد للمضاربين وللتجار الجشعين؛ وحولت قسماً كبيراً منه إلى عاطلين عن العمل؛ ونفذت كل مطالب صندوق النقد الدولي، بما فيها العمل على تطفيش أكثر من ثلث موظفي القطاع العام، مما جعل حياته لا تطاق. كل ذلك يدفع اللبناني إلى الهجرة، بحثاً عن فرصة عمل وعن لقمة عيش وعن وطن يحضنه بالحد الأدنى للكرامة، الذي بات يفتقده في وطنه لبنان.
هي مفارقة، أن يركب الغربيون البحر نحو الجنوب، أي العالم الثالث، لإستعماره ونهب خيراته وسرقة ثروات شعوبه، بما يحقق لهم الرفاهية والرخاء. فيما يعبر أهل الجنوب، من قارتي أسيا وافريقيا، البحر نحو الشمال بحثاً عن عمل وعن لقمة عيش يحصلونها من فتات ثروات بلادهم، التي سرقها منهم الغرب الإستعماري. وفي الوقت نفسه، تواصل الحكومة التي صنعها المستعمر وسلطها على الشعوب الفقيرة، تقديم الخدمات لذلك المستعمر، على حساب شعوبها وأوطانها؛ وحكوماتنا لا تخرج أبداً عن هذا الوصف.