أقلام الثبات

عندما قصد البطريرك الراحل نصرالله صفير الجبل، تحت عنوان المصالحة، منذ إثنين وعشرين عاماً خلت، كان سؤال البعض لماذا المصالحة في الجبل فقط. وهل أن الحرب الأهلية إقتصرت على الجبل في جهته الدرزية فحسب، أم أن النار والقتل والدمار والتهجير، طالت جميعها كل المناطق والمحافظات، من الشمال وعكار، إلى الجنوب والنبطية؛ وصولا إلى البقاع وبعلبك الهرمل، شاملة كل الطوائف والمذاهب والأديان.

وفي هذه الأيام يتكرر السؤال نفسه، مع صعود البطريرك بشارة الراعي إلى الجبل والشوف تحديداً، عارجاً على شانيه بلدة شيخ العقل الحالي سامي أبي المنى.

هو سؤال طبيعي وبديهي، فمن يريد إقامة مصالحة، تكون كما طالب وليد جنبلاط حينها، تشمل كل اللبنانيين، لكن مصالحة البطريريك صفير عام 2001، كانت في حقيقتها مبادرة من طرف واحد، تشبه تقديم إعتذار لأهل الجبل والدروز تحديداً، على ما قامت به قوات سمير جعجع بحق الجبل وأهله. فالبطريرك صفير كان معنياً برعاية جعجع وقواته، حتى كان البعض يناديه تحبباً، أو إستنكاراً "أبو سمير".

"مصالحة" صفير في ذلك الوقت وكما بينت التطورات، كانت خطوة من طرف واحد، تشبه زيارة أهل القاتل لأهل القتيل، لتقديم الدية ووقف أعمال الثأر. ولولا تلك الزيارة لما كانت ممكنة عودة المهجرين المسيحيين إلى بلداتهم وقراهم. فالعودة قبل الزيارة كانت خجولة جداً.

وجاءت الزيارة تحت عنوان "المصالحة" لتفتح أبواب العودة، التي لم تكتمل حتى هذه الأيام. والإعمار كذلك لم يكتمل لأسباب كثيرة. كانت جولة صفير في الجبل إعتذاراً بكل ما للإعتذار من معنى. فالمصالحة تجري بين اطراف الصراعات اللبنانية كافة ولا تقتصر على طرف واحد، أو منطقة واحدة. أما تقديم الإعتذار، فكان لمن تعرض لوحده، إستثناء، لعدوان استقوى بالدبابات "الإسرائيلية" لتغيير ديموغرافيا الجبل.

كان صعود "القوات" إلى الجبل محاولة لإلغاء الوجود الدرزي بكامله. تعدى خلاله عناصر القوات على الأهالي؛ ورسموا لهم أسهماً تشير إلى "الطريق إلى حوران"، حيث وجهة التهجير الذي أراده لهم سمير جعجع. لكن صمود أهل الجبل ونجدة الجيش العربي السوري؛ وتدخل القوات المشتركة للاحزاب الوطنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية، التي إندفعت وكسرت خط دفاع القوات في تلة شاناي. ودخلت فتح "الإنتفاضة" مع عشرات الراجمات إلى بحمدون المحطة. وانتشر المقاتلون الشيوعيون والقوميون السوريون والناصريون وعناصر الجبهة الشعبية والقيادة العامة، في بحمدون الضيعة والمنصورية وقرى جرد عاليه التي صعدت إليها "القوات". ثم واصلوا طريقهم إلى الشوف حيث حرروا طريق الساحل. مما أفشل مشروع "القوات"، فعادت إلى حدودها "بين كفرشيما والمدفون".

كانت الزيارة إعتذاراً، لأنها إقتصرت على الزعامة الجنبلاطية التي كانت مستهدفة بصعود "القوات" إلى الجبل. في حين أن المسيحيين الوطنيين تركوا خارج هذه "المصالحة"؛ وهم الذين ارتكبت بحقهم جرائم تقشعر لها الأبدان. في البداية على أيدي "القوات" التي قامت بتصفيات جسدية وحرب إبادة بحقهم. وبحمدون المحطة والضيعة، تشهدان على أن ابناءها الوطنيين كانوا ضحية سكاكين عسكر جعجع، ثم سكاكين الساعين للثأر مما ارتكبته قوات جعجع. وجثث العشرات من أهالي بحمدون التي القتها "القوات" في الرجمة قرب عين الجديدة شهدت على ذلك. ثم جاء قتل أهالي المسيحيين الوطنيين الذين رفضوا مرافقة "القوات" في إنسحابها إلى دير القمر، ليكمل ماساة المسيحيين الوطنيين، فهؤلاء إنتظروا أبناءهم المقاتلين في صفوف الأحزاب الوطنية لياتوهم محررين، فإذا هناك من يسبقهم ويقتل الرجال والنساء والعجائز في بيوتهم، بحجة الثأر لمن قتلته القوات. وعندما عوتب مسؤول المنطقة عما يجري، كان الجواب: "نحن لا نمون على شيء، فالقوات التي إندفعت من البقاع تمسك بالأرض". لكن "الثأر" لم يكن من فعل تلك القوات، بل من فعل أهل المنطقة الذين إستهدفتهم "القوات" بعدوانها المدعوم "إسرائيلياً". والبعض وضع اللائمة على "الموساد الإسرائيلي" الذي حرّض على إرتكاب تلك الجرائم ونفذتها أدواته. وعندما سقطت معاقل القوات في جرد عاليه، كان هم مقاتلي القوى الوطنية إنقاذ العائلات الآمنة وأهالي الشباب الوطني المسيحي، من سكاكين "الثأر". فتم إنقاذ مئات العائلات، التي جرى نقلها إلى زحلة، ريثما تهدأ النفوس.

فتحت زيارة البطريرك صفير للجبل أبواباً، أحدها تشجيع عودة المهجرين، لكن الأبرز فيها، كان تمهيد الطريق لإقامة تحالف إنتخابي في الجبل، ما زال صامداً. وتأتي زيارة الراعي تحت شعار تجديد المصالحة، لتفتح الباب أمام تقارب في الملف الرئاسي كشفته تصريحات البطريرك وخطاب وليد جنبلاط. فالبطريرك رغم إحتجاج حزبي القوات والكتائب، أعلن ترحيبه بالدعوة إلى الحوار بين القوى السياسية اللبنانية. فلاقاه جنبلاط بانتقاد نظرية "القوات" حول تفضيل الفراغ على إنتخاب مرشح "الثنائي الشيعي". كما إنتقد في الوقت نفسه، "نظرية" حزب الله بتحديد مواصفات الرئيس مسبقاً. وهكذا يشكل البطريرك ومن يمثل، مع جنبلاط ومن معه، حالة "ثالثة" في الكباش الرئاسي الحاصل. وهذه هي الثمرة والسبب الرئيس لجولة الراعي في الجبل.