أقلام الثبات
لسنا بوارد تضخيم العناوين وكأننا نقوم بالترويج التجاري لسلعة استهلاكية، بقدر ما أننا نكتب الواقع كما هو، وأن لبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط، المحسوب تاريخياً على فرنسا في منطوق الدول الخمس الكبرى، بوجوب احترام محاصصة الهيمنة خصوصاً بين القوى الثلاث: فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ونتيجة قصور سلطاته السياسية، باتت لاحقاً الدول الإقليمية الثلاث: السعودية وإيران وسوريا، حارسة الوصاية.
وإذا كانت روسيا قد اختطفت سوريا سياسياً واستراتيجياً، كموطىء قدم لها على المتوسط، والولايات المتحدة أزاحت بريطانيا من مصر والعراق، فإن لبنان يبقى جائزة الترضية للفرنسيين دون سواهم، ولكن بشرط، أن تتأقلم فرنسا مع الواقع السياسي الجديد لبلد المارونية السياسية ذات المنحى الذي يجاري التوازن الإقليمي، كما هي الحقيقة الحالية، التي تجعل من انتخاب سليمان فرنجية "المحسوب" على الشيعة، مطلباً فرنسياً للحفاظ على الدور الماروني في الشرق ضمن الحدود الدنيا المقبولة إسلامياً، لو شاء الموارنة خصوصاً ،والمسيحيون عامة أن يبقى لهم دور في الإقليم.
هذا الدور بدأ أصلاً على المستوى الثقافي في عصر النهضة، دون الحاجة الى ذكر إرث الكبار من الرواد المسيحيين، أمثال جبران ونعيمة والبساتنة واليازجي وأنطون سعادة، لكن الدور السياسي الذي بات مطلوباً من المسيحيين في لبنان، وتحديداً من رئيس الجمهورية الماروني، بدأ عام 1998 مع الرئيس إميل لحود واستُكمل مع الرئيس ميشال عون، وما بين العهدين، كان عهد الرئيس ميشال سليمان، رِجل في البور ورِجل في الفلاحة نتيجة الظروف التي أحاطت بمؤتمر الدوحة عام 2008، حيث كان الهدف انتخاب رئيس ماروني...أي رئيس!
وكي يستمر عُرف انتخاب رئيس ماروني للبنان، على الموارنة قبل سواهم، قراءة "الدولة العميقة" في أية مؤسسة سياسية، سواء كانت حزبية أم حكومية، والدولة العميقة الغالبة في لبنان منذ العام 2000، هي التي تؤمن بالمعادلة الثلاثية للجيش والشعب والمقاومة، ولو أنها تفرملت عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري،لكنها استعادت ذاتها عام 2006. في هذه الأجواء، قرأ العماد ميشال عون بعُمق، جدوى الإنضواء الوطني الذي يحمي الوجود المسيحي والماروني عبر الشراكة، بتفاهم "مار مخايل"، الذي لم يكُن مقفلاً بوجه الشركاء الآخرين في الوطن، لكن كانت لهؤلاء قراءاتهم الخاطئة للأسف، حتى بعد وقوع كارثة "الربيع العربي" عام 2011، وغامروا وقامروا في الرهانات على التطورات الإقليمية حتى الرمق، سواء بانتصار صهيوني على المقاومة أو بانكسار النظام السوري، في الوقت الذي كانت فيه التنظيمات الإرهابية تتهيأ لدخول لبنان، الى أن كانت عملية التحرير الثانية عام 2017 بفضل الجيش والشعب والمقاومة.
وإذا كانت هذه المعادلة الثلاثية، استطاعت توقيف انتخاب رئيس للجمهورية مدة عامين ونصف، خلال حمأة الخلافات الإقليمية، خصوصاً بين المملكة العربية السعودية وإيران، الى أن تمّ انتخاب الرئيس ميشال عون كونه ينتمي لجناح المعادلة الثلاثية في "الدولة العميقة"، فأي رئيس يُمكن أن يؤتى به الآن، في ظل التفاهم السعودي الإيراني على مسائل استراتيجية عابرة للحدود والمضائق، ونحن نرى قطاراً روسياً من ثلاثٍ وثلاثين عربة محمَّلة بالمنتجات الإستهلاكية الروسية، وهو يعبر للمرة الأولى الأراضي الإيرانية متوجهاً الى السعودية، وأين لبنان من أسرار "الدولة العميقة" في تفاهم القطبين الإقليميين، سوى أنه بحجم بحيرة بنشعي بالمقارنة مع مضيق هرمز!
ونعود الى لبنان، لنقرأ أسرار الدولة العميقة في الإتصالات بين حزب الله والتيار الوطني الحر، والتي ليس بالضرورة أن تنتهي بالتوافق على سليمان فرنجية، لكنها على الأقل استبعدت من النقاش أي إسم لا ينتمي الى محور دولة ما بعد التحرير عام 2000، وبدل أن يتلهى اللبنانيون على ضفاف بحيرة بنشعي، بانتظار أن يأتيهم الفرج من مضيق هرمز، عليهم وقف الرهانات أن شخصاً يمكن أن يصبح رئيساً للبنان من خارج الدولة العميقة، حتى ولو بقي لبنان بلا رئيس.