أقلام الثبات
يطالب بعض اللبنانيين بإيصال "رئيس قوي" إلى كرسي قصر بعبدا، في بدعة إستنسخت الشعار القديم الخارج عن كل منطق والداعي لإختيار حاكم "عادل ظالم"، فكيف يكون الظالم عادلاً، إلا إذا كان "العدل" بدعة مزاجية تختلف عن العدل الذي نعرفه. وهم في سعيهم هذا، كالباحثين عن إبرة في كومة قش، ففاقد الشيء لا يعطيه؛ ومجلس النواب الضعيف التمثيل كيف له أن يوصل رئيساً قوياً.
جاءت فكرة الرئيس القوي لتبرر إنتخاب الرئيس السابق ميشال عون، باعتباره الأقوى مسيحياً والأكثر تمثيلاً. وهو الذي قيل عن نجاحه مع مؤيديه في الإنتخابات النيابية بأنه "تسونامي"، إجتاح كل من واجهه. لكن الفشل الذريع كان نتاج عهده، تحت شعار: "ما خلونا". بما يعني أنه كان ضعيفاً أكثر من الرؤساء الذين عرفوا بضعفهم.
وهكذا الأمر طوال العهود السابقة، فعهد بشارة الخوري "زعيم الإستقلال"، لأنه قوي، تحول إلى عهد فاسد عاث فيه "السلطان سليم" شقيق الرئيس، في البلاد فساداً، فكان أن أطاحت به "ثورة بيضاء"، كان الرئيس اللاحق كميل شمعون أحد قادتها. وشمعون بدوره، لأنه "قوي"، تعرض لثورة شعبية سفكت فيها الدماء واستنجد فيها بقوات "المارينز" الأميركية لتحميه. وحتى الرئيس اللواء فؤاد شهاب، الذي نصب رئيساً بتوافق عربي-أميركي، لم تنفع "قوته" باعتباره إنتقل مباشرة من قيادة الجيش إلى قصر بعبدا، حيث فشل أمام الذين أسماهم "أكلة الجبنة"، الذين يشكلون تحالفاً بين زعماء الطوائف وأصحاب المصارف وقادة المافيات المالية والإقتصادية والتجارية، الذي سمنوا في أيامنا، كمنظومة، من جشعهم وقوتهم، فأكلوا البلد كلها. والأمر نفسه مع الرئيس سليمان فرنجية، الذي عرف عهده وهو الزعيم القوي، أبشع وأقسى حرب أهلية شهدها لبنان، إضطر فيها إلى مغادرة قصر بعبدا، تحت الضغط العسكري للمعارضة. وعندما قرر بشير الجميل أن يكون رئيساً قوياً، إستدعى وزير دفاع العدو "الإسرائيلي" ارييل شارون وجيشه الصهيوني، ليحتل بيروت ولتكون دباباته حارسة لإنتخاب بشير، بوقوفها على أبواب الكلية الحربية في الفياضية. وعبّر أمين الجميل عن "قوته" بتوقيع إتفاق "17 أيار" مع العدو "الإسرائيلي"، الذي جرى إسقاطه فيما بعد بحرب اهلية دموية لم ترحم أحداً.
إذا فالحديث عن رئيس قوي ضمن الواقع القائم، حديث مضلل وأوهام فارغة. فالرئيس الذي يستمد قوته من تدخلات الخارج ولا تكون قوته من حجم وشمولية تمثيله الشعبي، هو رئيس ضعيف أمام المنعطفات والإستحقاقات الجدية.
وكيف يكون الرئيس قوياً عندما ينتخبه مجلس النواب الضعيف التمثيل أصلاً، فالمجلس النيابي في أحسن حالاته لا يمثل خمسين في المائة من اللبنانيين. لأن نتائج الإنتخابات النيابية في كل دوراتها، تبين أن المقاطعين للإنتخابات لا يقلون عن نصف عدد الذين يحق لهم الإقتراع. وعند إنتخاب رئيس الجمهورية ينقسم مجلس النواب بين مؤيد للرئيس ومعارض لإنتخابه، فيصل الرئيس المنتخب بتمثيل شعبي هزيل بالكاد يقارب ثلث عدد اللبنانيين. ومجلس النواب الضعيف التمثيل لا يوصل رئيساً قوياً. وهذا العامل هو الذي جعل من مجلس النواب مجرد اداة إقتراع، فيما قرار الإنتخاب وتحديد صاحب الحظ يكمن في الخارج، لدى دول النفوذ والهيمنة. ويعرف اللبنانيون أن للسفارات الأجنبية الدور الأساس في إختيار الرئيس وتأمين الأصوات الكافية لإنجاحه. ومجلس النواب كان وما يزال، مسرح تمثيل وإخراج للقرار الأجنبي. وهو حالة معلبة تتحكم في تشكيلها إعتبارات كثيرة، ليس أقلها عنصر المال والعصبيات وتدخل السفارات وحملات الإعلام. وكثير من اللبنانيين واصحاب الرأي، يشككون بشرعية إنتخاب القسم الأكبر من النواب. والتأثير الخارجي على قرار وتوجهات 99 أو128نائباً، أسهل بكثير من التحكم بالتصويت المباشر لعدة ملايين من المقترعين. ولا ننسى عنصر المفاجأة في الأحداث التي تسبق الإنتخابات الرئاسية، حيث تتم صفقات وتفاهمات من تحت الطاولة، لا يشارك فيها المواطنون ولا يعرفون ماذا جرى فيها ولا الأثمان التي دفعت للوصول إليها.
واللافت، الذي يتجنب كثيرون التحدث عنه، هو غياب صوت رئيس الجمهورية تجاه أحداث كثيرة. وتهميش دوره في استحقاقات هامة، لأن صلاحيات الرئيس ياخذها من المحاصصة الطائفية القائمة. وأحد أسباب تعقد الأزمات حالياً، هو غياب دور وصلاحيات رئيس الجمهورية التي تتيح له أن يكون حكماً بين السلطات. والأمر الطبيعي أن تكون للرئاسة دورها وصلاحياتها، شرط أن يكون الرئيس رئيساً لكل لبنان وليس لفئة أو طائفة. فيتم إنتخاب الرئيس من الشعب مباشرة. وتنقذ الرئاسة من التعليب الذي يمثله مجلس النواب في مسرحية الإنتخاب. وتتعطل أدوات التدخل الخارجي والفرض وشراء الذمم بين النواب والفاعليات. ويشعر اللبناني أنه صاحب القرار في اختيار رئيسه. والأهم، أن إعادة القرار للشعب يمنع الإتيان برئيس مجهول وبشكل فجائي. بل يجري إنتخابه على أساس برنامج واضح والتزامات تجاه الشعب وليس تجاه السفارات. وهي خطوة لا بد منها حتى لا تستمر مسيرة إنهيار وتحلل الدولة بكل مؤسساتها بدءاً من رئاسة الجمهورية.