أقلام الثبات
كالكبير عندما يتذاكى على الصغير، فيشتري له لعبة يتلهى بها، فيما الكبير يقرر عنه شؤونه، لا بل مصيره برمته. هكذا تنشر دول الغرب ديموقراطية مزيفة تلهى بها شعوب العالم الثالث، صارفة أنظارها عن نهبها لخيرات وثروات تلك الشعوب؛ وعن تسلطها على قرارها وخياراتها الحياتية والمصيرية.
مسخت دول الغرب، إن كانت من الإستعمار القديم أو المتجدد، الديموقراطية. وحولتها إلى أداة لكسر إرادة الشعوب الضعيفة والمتخلفة. وبعد أن كان مصطلح الديمقراطية يعني «حكم الشعب» لنفسه، لتقرير نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومشاركته التامة في جميع جوانب حياته، باتت الديموقراطيات في البلدان التي يتسلط عليها نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية، مجرد واجهة لحكم فئات وشرائح صنعتها تلك الدول ووضعتها في واجهة الحكم، تحميها وتمنع تغييرها وتستخدمها قناعاً لإستمرارية التسلط الإستعماري القديم، تحت خدعة "الإستقلال" الشكلي، الذي لم يترجم تحرراً من نفوذ المستعمر ولا من قواعده العسكرية ولا من إستمرار نهبه لثروات البلدان التي "إستقلت" عنه.
ولو نظرنا إلى نماذج الديموقراطيات الغربية في منطقتنا العربية، نجد أن النظام اللبناني بكل عفونته وفساده؛ ونظام الكيان الصهيوني بلا شرعيته وعدوانيته وإجرامه، هما فخر الديموقراطية الغربية في هذه المنطقة. والمفصل في هذه "الديموقراطية" هو الولاء للغرب والتبعية له وخدمة مصالحه. وهذا الأمر هو الذي يطيل عمر الأنظمة الموالية للغرب؛ وفي مقدمها الأنظمة الملكية والعائلية وهي من أعتى الديكتاتوريات. في حين أن وصول رجل معاد لسياسات الغرب في بلد مثل باكستان، إن كان محمد علي بوتو سابقاً، أو عمران خان حالياً، عن طريق إنتخابات حرة وشفافة، هو مدعاة لأن يقوم الجيش الموالي لأميركا؛ والمشكل رتبة رتبة على أيدي مخابراتها، بالإنقلاب عليه، فيطيح الجيش ببوتو بانقلاب عسكري ويلفق له ملفا جنائياً ويتم إعدامه شنقاً، تحت سلطة رجل أميركا في ذلك الوقت وقائد الجيش الجنرال ضياء الحق (حذر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مسبقا بوتو بأن الأميركيين يريدون الإطاحة به وقتله). والأمر نفسه ينتظر عمران خان، الذي لفقت له تهما واعتقل مؤخراً وربما سيلاقي مصير بوتو، لأنه رفض الهيمنة الأميركية على بلاده وقال للأميركيين والغربيين: "لسنا عبيداً عندكم"، خصوصاً أن خصمه الحقيقي هو جنرالات الجيش الباكستاني، الموالين لأميركا؛ ومعهم التنظيمات الإسلامية السلفية، التي تتحكم المخابرات الأميركية في قرارها؛ وهي التي أنتجت منها ومن أمثالها تنظيمات "طالبان" و"القاعدة" و"داعش".
والأمر نفسه سبق وعايناه في تركيا، فعندما كانت الإنتخابات وبكل شفافية، توصل أبو الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، نجم الدين أربكان إلى السلطة، كان الجيش الأتاتوركي الممسوك من الأميركيين، ينقلب عليه ويسجنه. وتكرر ذلك اكثر من مرة. لكن عندما انشق رجب أردوغان عن معلمه وأستاذه أربكان؛ وخاض الإنتخابات وفاز فيها؛ وجد كل عون ومساعدة من الجيش ومن المؤسسات، التي طالما كانت حارسة للعلمانية التركية. والمفصل هنا، أن أردوغان وكما بينت الأيام، حافظ على العلاقات الخاصة مع الكيان الصهيوني؛ ولم يمس بدور وانتماء تركيا لحلف "الناتو". وكان الظهير الأساسي لتنفيذ الحرب العالمية، التي شنتها أميركا والغرب وأتباعهم من الأنظمة العربية ضد سورية. ولذلك قال له الراحل أربكان ببصيرته: "أنتم عبيد الصهيونية". وها هو نظام أردوغان يحكم تركيا باسم الإسلام، من دون أن يمس الخطوط الحمر الأتاتوركية والغربية الإستراتيجية ولو بشعرة.
والديمقراطية في الغرب، كما يصفها البعض هي "أفضل أشكال الديكتاتوريات"، إذ ليس بإمكان أي مواطن غربي أن يترشح للرئاسة، أو لأي موقع آخر ودخول العمل السياسي والفوز فيه، من دون الخضوع لشروط مفصلة على قياس النظام وقواه العميقة. فهناك سلسلة "فلاتر" سياسية وحزبية ومالية، تجبر أي مرشح لتلك المناصب ان يكون من أهل النظام القائم، يرتبط بلوبيات المصالح السياسية والإقتصادية، التي تسيطر على الحياة السياسية فيها؛ ويعمل في خدمتها ووفق توجيهاتها، وإلا لن يرى الفوز ولن يصل لمبتغاه. وإذا جرب أن يحيد عن الخط المرسوم له، يتم إغتياله مثلما جرى للرئيس جون كينيدي. والذاكرة تحفظ ما حدث في تشيلي لرئيسها اليساري المنتخب سلفادور الليندي، الذي اطاح به الجيش الموالي لأميركا وأعدمه وارتكب مجزرة مروعة بحق مؤيديه. وكذلك يشهد العالم العدوانية التي تعامل بها أميركا فنزويللا ورئيسها المنتخب، لأنه خارج عن طوعها.
والملفت أن الغرب يمارس ذات السياسة والأساليب في كل زمان ومكان. فهو يربط بين الديموقراطية والتبعية السياسية والإقتصادية. وآخر مسرحيات الديموقراطية الغربية تجري في النيجر حالياً، حيث يتباكى الغرب وأتباعه على الديموقراطية فيه. ففرنسا التي إستعمرت ذلك البلد الأفريقي، ما تزال تستولي على مادة اليورانيوم الموجودة في أرضه. وتنشر قواعد عسكرية فيه. ولا تخفي السلطات الفرنسية معرفتها بأن شعب النيجر من أفقر شعوب العالم، فيما المفترض أن تجعله مناجم اليورانيوم غنياً أو مكتفياً بالحد الأدنى. كما أن الولايات المتحدة تنشر قواعد عسكرية فيه، لبسط نفوذها وحماية هيمنتها وفرض التبعية على شعب النيجر. فقط ما يزعج الغربيين هو الإطاحة بالرئيس المنتخب في النيجر، لأنه رجلهم وقفاذهم في حكم النيجر وحارس مصالحهم. والتحدي اليوم أمام الشعوب هو بربط التحرر السياسي بالتحرر الإقتصادي؛ وبسيطرة الشعوب على مقدراتها وثرواتها ورفضها للتبعية بكل اشكالها.