أقلام الثبات
الإقتراح المبدئي للرئيس نجيب ميقاتي بعقد جلسة للحكومة في المقر الصيفي للبطريركية المارونية بالديمان، جاء رفضه من الوزراء المسيحيين أنفسهم، تداركاً ربما لأزمة طائفية جديدة في ما لو تم رفضه من زملائهم، خاصة أن الطائف قد نصَّ على اجتماع الحكومة في المقرّ الرسمي لها، بإستثناء الجلسات التي يرأسها رئيس الجمهورية والتي تُعقد في قصر بعبدا.
بإمكاننا توصيف إقتراح الرئيس ميقاتي بالخائب، أولاً لأن المتغيرات الزمنية والوقائع السياسية، لا تسمح للبطريرك الراعي أن يكون البطريرك الحويك، وثانياً لأن مجد لبنان الذي أعطي للكرسي البطريركي، بات يخضع في أيامنا للقسمة، على قاعدة ٦ و ٦ مكرر، اليوم في الديمان، وغداً في دار الفتوى، وبعدها في صرحٍ دينيٍّ آخر وهَلمَّ جرا، في مشهدية فولكلورية لوزراء يجرُّون كراسيهم من مكانٍ الى آخر، دون أدنى جدوى من لقاءات تبويس اللحى، لأن هكذا مجاملات هي أقرب للتكاذب الشكلي، والشعب اللبناني بكل طوائفه، يفترض أن المواقع الدينية العليا يجب أن تكون راعية لشؤون الناس وهمومهم الإجتماعية، وهي الأيدي التي تُبلِسم عمق جراحهم بالرأفة والرحمة، لا أن تحمل عصيّ الرعيان عليهم بالشراكة التابعة لطبقة سياسية لا تُراعي الله فيهم.
الشعب اللبناني هو شعبٌ مؤمن، ولعل هذه الميزة تنبع من تربيته بوجوب بناء الأسرة الصالحة التي تقوم على القِيَم الروحية للأديان، ولكن هذا الشعب هو أيضاً منفتح على تعددية الثقافات، ولا يرضى أن يكون أسير عِظَة من هنا وخُطبة من هناك، ما لم يُلامس الكلام واقعه القاسي ووضعه "الحضيضي"، ولدينا أمثلة وشواهد من كل البيئات المجتمعية في لبنان، تؤكد أن رجل الدين ما لم ينزل الى دنيا معاناة الرعايا لا حاجة للناس به وسيطاً لهم عند الله، على غرار تلك التظاهرة الزغرتاوية التي حمل خلالها أنصار الوزير السابق سليمان فرنجية صُورَه وهتفوا: "إنتَ البطرك يا سليمان"، عندما ساءت العلاقة بينه وبين البطريرك صفير.
ونتساءل، كيف لشعب الأمعاء الخاوية، أن يرى بعض القيادات الدينية تعتلي عروش الأوقاف والممالك المبنية والمساحات العقارية الشاسعة، وأن يدين لها بالطاعة وهي غائبة عن سماع أنين خواء الجوع في الدواخل، سيما وأن المدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات التابعة لبعض هذه الأوقاف، هي مجرد "برستيج استعراضي" دون الحاجة الى تسميتها، ليس خوفاً من التشهير، بقدر ما أننا تقريباً نعني "كلُّن يعني كلُّن"، فلا يعجبنَّ أحدٌ مثلاً، لو كان يطغى وجود المرحوم رفيق الحريري ومن بعده نجله سعد على القيادات الدينية والدنيوية، وكذلك الحال بالنسبة لسليمان فرنجية ووليد جنبلاط ونبيه بري وسمير جعجع مع حفظ الألقاب لهم ولكل جماعة الإقطاع العائلي والسياسي والحزبي، لمجرد قدرتهم على خلق فُرص معيشية وحياتية ضمن الحد الأدنى لمُناصريهم؟!
وليس مطلوباً من القيادات الدينية بيع أوقافها لمساعدة الشعب في الوقوف على قدميه، بل أن هناك آفاقاً مؤسساتية رعائية خارجية شبيهة بالتوأمة مع عشرات الآلاف من الجمعيات والمنظمات الخيرية الدولية، بدءاً من الخليج العربي ومروراً بأوروبا ووصولاً الى أميركا وكندا وأوستراليا، وهناك بلديات صغيرة في لبنان، استطاعت توأمة قراها مع بلدات في الخارج، فلماذا لم تُقدِم القيادات الدينية بكامل وقارها على خطوات مشابهة؟ والجواب موجود، أن معظم هذه القيادات جعلت من نفسها مرجعيات سياسية غير موثوقة، وتخلَّت عن يد الرعاية وحملت عصا الرعيان على قطعانٍ جائعة، وإليهم نُقدِّم الدليل!
بعد كارثة ٤ آب في مرفأ بيروت مع ما خلَّفته من ضحايا ودمار، ومن منطلق عدم ثقة المجتمع الدولي بالسلطات الحكومية في لبنان، وبمعظم الشخصيات السياسية والحزبية، نتساءل، لماذا لم تلجأ المنظمات الدولية الى المرجعيات الدينية العليا لتقديم مساعداتها ولماذا لجأت الى ال NGO's ؟ والجواب نتركه لهذه المرجعيات التي تتناكف عند كل مفترق وطني ولا تُقدِّم لشعبها سوى العِظات والخُطَب.
ختاماً، ولأن الرئيس نجيب ميقاتي أراد باقتراحه عقد جلسة لحكومته في الديمان طمأنة المسيحيين اليتامى بغياب رئيسٍ للجمهورية، نرغب التأكيد ونستلهِم بقولنا دروس الماضي، أن مربط خيل المسيحيين ليس في الديمان ولا بكركي ولا في رحاب المطرانيات، ولا في أي قمقم طائفي أو مذهبي، وأن المسيحيين يفخرون بسيرة البطريرك الحويك لدوره الوطني الجامع في زمانه، تماماً كما فخرهم بجبران خليل جبران وأنطون سعادة وسائر النُخب الفكرية والسياسية في عصر النهضة.