أقلام الثبات
تضغط أوهام التدويل واستدعاء الوصايات الأجنبية، على رؤوس الذين لم يقتنعوا بعد أن النظام اللبناني القائم، الفاسد المفسد، بطائفيته ومحاصصته وزبائنيته، لم يعد قابلا للحياة؛ ولم يعد قادراً على حل مشاكل اللبنانيين، بل بات هو مصدر مشاكلهم ومعاناتهم. فاذا بالمتوهمين من زعماء الإستتباع ومراجع الطوائف، المتعامين عن سرقات أصحاب المصارف لأموال اللبنانيين؛ وهو قمة فساد النظام وأهله، يطلقون نداءات الدعوة إلى تدويل الأزمات اللبنانية؛ أو يطالبون بحياد البلاد؛ ثم يستجدون التدخل الدولي في الشؤون الداخلية اللبنانية، هرباً من إستحقاق لا بد منه، بتحويل لبنان من مزرعة طوائف إلى وطن لشعبه، يحضنهم ويحل مشاكلهم، بدلاً من نهب خيراتهم وتهجيرهم في مجاهل الإغتراب، بحثاً عن عمل ولقمة عيش وعن إستقرار غير متوفر في لبنان، علماً أن تلك الأصوات ذاتها، تصم آذاننا معظم الأوقات وهي تتحدث عن السيادة والإستقلال وغيرها من الشعارات المستهلكة.
بيت القصيد في مواقف هؤلاء، أنهم يرغبون في إطالة عمر النظام اللبناني المنهار، بفعل فساد أركانه ورموزه وسياساتهم، فتبقى مزرعة الطوائف ومحاصصاتها وزبائنية زعاماتها؛ وتقطع الطريق على تحول لبنان إلى وطن للإنسان، وطن يحترم كفاءة المواطن واستقامته ونزاهته؛ ولا يعامله كمجرد رقم في طائفة، حيث تفتخر الطائفة بفساده وببلطجيته، باعتباره قوياً وفاعلاً، يحميها من الأخطار المفتعلة؛ وتحميه بدورها وتحمي فساده، باعتباره رمزاً لها.
تمارس تلك الأصوات بدعواتها تلك، سياسة الهروب إلى الأمام، باتجاهين: الأول سياسي تهرب فيه من الإصلاح السياسي وحده الأدنى تطبيق ما تبقى من بنود إتفاق الطائف، مع تطويره نحو الأفضل. وفي الوقت ذاته، ترفض الحوار الداخلي، الذي ينتج تفاهمات معبرة عن واقع التوازنات الداخلية، مفضلة الإبقاء على الإرتماء في أحضان دول الهيمنة والإستتباع، لتكريس تبعية لبنان بالكامل للسياسات الغربية والأميركية تحديداً. وما رفض تطويرالنظام في لبنان، باتجاه دولة المواطنة غير الطائفية، إلا تمسك بدولة المحاصصة الطائفية، التي تنتج الفساد وتحمي الفاسدين. لكن "أهل النظام" دعاة الإستقواء بالخارج، يرون الحل باستقدام إنتداب جديد أو وصاية جديدة على لبنان.
أما الإتجاه الثاني فاقتصادي، عبر الدفع لرمي لبنان بالكامل في احضان النظام الإقتصادي العالمي، ممثلا بصندوق النقد الدولي وشروطه وسياساته، التي ما دخلت دولة إلا وحولتها إلى خراب.
والمواطن اللبناني بات يدرك خبث الكلام عن ضرورة القبول بشروط صندوق النقد الدولي، فنظام التمويل الدولي هو أداة للهيمنة على الدول الفقيرة. والصندوق نفسه هو واجهة هذا النظام، يخدع الشعوب والدول بأنه طوق النجاة للخروج من مشكلاتها، لكنّه في الواقع، يعمق مشاكلها ويفاقمها، لجرها للقبول بإملاءات تفرضها الدول التي تمول وتدير ذلك الصندوق. وما حالة الفقر والعوز التي تعانيها بعض الدول، إلا نتيجة النهب الذي تمارسه الدول الكبرى وادواتها المحلية. وكذلك، استمرارها بالهيمنة وفرض السياسات وفرض الحكومات الفاسدة، التي تغرق البلاد في مديونية تكون مدخلا للقبول بشروط مجحفة، تحت حجة "الإنقاذ". وفي بلد مثل لبنان، ماذا يفعل أو يغير من واقع الحال، قبول مساعدة بثلاثة مليارات دولار، على مدى خمس سنوات، فيما العجز والمديونية يفوقان عشرات المليارات. ولبنان لا يتحمل ديوناً جديدة. كما أن فساد زعماء السياسة والطوائف، كفيل بهدر تلك المساعدة في أشهر معدودة. وما نموذج دعم بعض السلع، الذي عشناه خلال السنتين الأخيرتين إلا شاهدا على ذلك.
ولا ينسى اللبنانيون أن "الجهات الدولية المانحة"، سبق أن هددت لبنان بخفض تصنيفه الإئتماني ونفذت تهديدها، لتفرض عليه إملاءاتها السياسية والإقتصادية، ضمن سياسة ما تسميه "تعميم ثقافة الإقراض لتنفيذ المشاريع الاقتصادية، في الدول التي تحتاج إلى المساعدة". وسبق للحكومات اللبنانية ان قبلت توصيات ومقررات مؤتمر "سيدر" الخاص بلبنان ومؤتمر بروكسيل-3، الخاص بالنازحين السوريين. الأول قرر "توريط" لبنان بديون، فيما هو عاجز عن الإيفاء بفوائد ديونه السابقة. والثاني "ورط" لبنان بربط عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، بإنجاز الحل السياسي فيه، بما يعني توطينهم لاستعمالهم في ابتزاز الدولة السورية والضغط عليها في الشؤون السياسية والأمنية. وكذلك، فرضت تشغيلهم في لبنان، بقروض أوروبية يسددها اللبنانيون مع الفوائد، حتى لا يهاجر النازحون الى البلدان الغربية. فهل يريد المعجبون بقروض صندوق النقد توريط لبنان بمشكلات جديدة.
ومن الواضح أن الدعوات لعقد مؤتمر دولي يبحث الأزمة اللبنانية، لا يرمي لإيجاد حلول للمشكلات اللبنانية، انما يهدف لصناعة فك جديد لكماشة العقوبات الاميركية والحصار الاميركي على لبنان، لأهداف يعلمها اللبنانيون جيداً. أما التذرع بالفراغ وبعدم إنتخاب رئيس جمهورية جديد، فانما هو ناتج عن عقم في النظام القائم، يتم علاجه بحوار بين اللبنانيين، لتطويره نحو دولة المواطنة غير الطائفية. ونحو جعل آلية إنتخاب الرئيس بيد المواطن اللبناني، عبر إنتخاب الرئيس مباشرة من الشعب. وليس الحل باستقدام إنتداب جديد أو وصاية أجنبية جديدة على لبنان.