أقلام الثبات
هل يعقل أن يقف اللبنانيون لا حيلة لهم أمام ازمة الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية، يعجزون عن قول كلمة أو التأثير سلباً أو إيجاباً في الإستحقاق الرئاسي الضاغط، فيما "الكومبارس" النيابي يمثل دور الناخب، أما القرار الفعلي فهو في دول الهيمنة والإستتباع الغربية؛ وفي أنظمة التمويل النفطية. وما الكباش الداخلي الحاصل سوى خلاف على المحاصصات والأنصبة، التي ستلي جلوس صاحب الحظوة على كرسي بعبدا، ليكمل مسرحية "السيادة" الوطنية المزعومة و"الإستقلال" المدعى، في إنكشاف مدو للنظام اللبناني، يتخطى حدود الفضيحة، ليصل إلى مستوى الخيانة الوطنية.
هذا الإنكشاف السياسي للنظام اللبناني، وصلت ذروته إلى حد حمل أحد زعماء الطوائف، لائحة بأسماء مسترئسين، لأخذ رأي الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون فيها، في إعتراف مدوي بأن النظام اللبناني وصل إلى حائط مسدود، بعدما تغيرت توازناته وضعف دوره في محيطه، الذي لم يعد يحتاج لوظيفته كجسر بين الشرق والغرب، أو وكيل لأعمال ومصالح ذلك الغرب؛ وبات عاجزاً عن تقديم الخدمات للذين أشرفوا على ولادته وصنعوا أسسه القانونية والإدارية، كما بات سدنته عاجزين عن ابتداع تسوية جديدة دائمة أو مؤقتة له، يعبر فيها المرحلة إلى حقبة واعدة. وهذا العجز عن "إختراع" تسوية جديدة جعل اصواتاً ترتفع داعية للفدرالية وللامركزية مالية، في إبتزاز مفضوح، لتحسين موقع التفاوض في التسوية – الصفقة الآتية، لأن أي دعوة للتقسيم والفدرلة هي رصاص "خلبي"، فلبنان أصغر من أن يقسم وخيراته كامل الأجزاء لا تكفي سكانه، فكيف ستكفي بعض الجبال الجرداء والصخور الصماء سكانها وتطعمهم، فيما لو انعزلوا في غيتوات طالما حلم بها البعض وسعى إليها وفشل في إقامتها.
كان أهل النظام اللبناني ورعاته الدوليين والإقليميين، في كل مرة يواجه فيها مشكلة هوية أو وظيفة أو إعتراضات في الداخل، يعمدون إلى تسوية مؤقتة تعيد توزيع المكاسب والمناصب، في نظام هو أشبه بمزرعة منه إلى دولة، سميت زوراً "لبنان الكبير"، توزعت فيها المواقع السياسية والإجتماعية، بين ملاكين وفلاحين ووكلاء وأجراء. ومع كل تغيير في توازنات الداخل أو سياسات ومشاريع الخارج، كان سكان المزرعة يقتتلون لتغيير وظائفهم وأدوارهم وحصصهم من محاصيل المزرعة وأملاكها. وكان الحل يأتي كالعادة من الخارج، مرة من "الأم الحنون" فرنسا، التي بقيت تتولى هذا الدور إلى ما بعد حقبة الإستقلال المزعوم. ومرة يأتي الحل من تفاهم أميركي - مصري، مثلما جرى بعد "ثورة" 1958، أو من إيحاء أميركي وتمويل سعودي، في مؤتمر الطائف، أو من وساطة قطرية تزكيها "مظاريف الرشوات المالية"، التي سهلت العقبات ولينت المواقف، كما في إتفاق الدوحة. وهكذا تعوّد أركان النظام بذكاء وخبث، تقمص ادوار المدافعين عن طوائفهم المستهدفة من "راجح" الوهمي، الممثل بالطوائف الأحرى؛ وهو الجار والصديق والقريب والشريك، في المبنى والشارع والقرية والمنطقة ومكان العمل؛ وفي كل الروابط الإجتماعية والحياتية. لكن يبدو أن جميع "أرانب" حواة السياسة والطوائف إستهلكت؛ واستنزفت حملات التهويل والتخويف من الآخر، بدليل أن المشكلة باتت داخل طائفة رئيس الجمهورية ذاته؛ وليس مع غير طوائف. وسدنة الحكم والنظام و"حكماؤه" يطلبون مساعدة "صديق" من الخارج، لعله يجد لهم حلا، بعدما غطت على ما عداها، شكوى اللبنانيين من الأزمة المالية والإقتصادية المفتعلة، لإفقار اللبنانيين وتجويعهم وتطويعهم، لفرض خيارات تستكمل تبعية بلدهم التامة للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأميركية خصوصاً.
واللافت أن الخارج لا يشعر بأي إحراج وهو يمارس تدخلاته في الشأن اللبناني، فقد أمر أحد موظفي الخارجية الأميركية النواب اللبنانيين، بأن لا يغادروا الجلسة قبل إختيار رئيس. وأمر نواب أميركيون رئيس المجلس بعقد جلسة تحت طائلة تعريضه لعقوبات. في حين يشعر اللبنانيون أن المسؤولين عنهم لا يعيرونهم إهتماماً، فهم لا يلتفتون إلى "المجزرة" المالية التي ارتكبتها المصارف بحق إيداعاتهم؛ ولا بالغلاء الذي يفتك بلقمة عيشهم؛ ولا بالإنهيار المريع الذي اصاب عملتهم. جل ما يهم أولياء الحكم والسلطة هو رضا الخارج عن ادائهم، بما يكفل إستمرارية بقائهم في مناصبهم. لكن وصول الأزمة إلى حائط مسدود وغياب المخارج، بات يستدعي حلاً جذرياً دائما، يعيد ثقة المواطن بوطنه ودولته؛ ويوقف سيل الهجرة إلى الخارج؛ وينتج سلطة تدير وطناً لا مزرعة. وهذا الأمر لا يتحقق إلا بإعادة سلطة القرار إلى صاحبها، أي الشعب، من خلال انتخاب الرئيس بالإقترع الشعبي المباشر، فتسقط تدخلات الخارج التي تستسهل التأثير على عشرات النواب، لكنها تعجز عن التحكم بقرار الأكثرية الشعبية. كما يصبح كل مسترئس ملزم بتقديم برنامج للحكم ينتخب على اساسه؛ ويستكمل تطبيق بنود الطائف، حتى لا نصل إلى مرحلة يقال فيها أن لبنان كيان غير قابل للحياة.