أقلام الثبات
مسرحية جديدة ينفذها "أهل النظام" في لبنان؛ يخدعون فيها "جماهيرهم" بأنهم مختلفون. والمضحك في هذه المسرحية، إلى حد السخرية، أنها تدور حول معركة بدأت بالنشوب بعالي الكلام وأجرح العبارات، بين المنظومات الطائفية السياسية، على ماذا؟ على إيصال من تختاره فرنسا أو أميركا أو المملكة السعودية إلى سدة رئاسة الجمهورية!
لماذا هذه المسرحية؟ لأن اللبنانيين اعتادوا عند كل منعطف؛ وعند كل أزمة يواجهها النظام القائم أو إحدى ركائزه الطائفية، أن يخرج عليهم رموز الدولة العميقة المشكلة من تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف؛ وكبار المحتكرين من تجار المال والسياسة والشعارات، بلغة طائفية تصعيدية تستدعي رداً جاهزاً والأرجح أنه متفق عليه، من جهة مقابلة، فتنتظم صفوف الجمهور الطائفي خلف المعركة المفتعلة وخلف الزعماء؛ وتتراجع أولويات الناس وتسقط مطالبها وتقفل الأبواب على همومها ومشاكلها، كيف لا والتحدي الطائفي و"يا غيرة الدين" هي شعار البطريرك الماروني، مثلما هي نداء المفتي الشيعي والسني وشيخ العقل الدرزي وغيرهم من رموز الطوائف.
أركان هذا النظام المتجذر في تاريخ الكيان اللبناني، الذي صنعه المستعمر الفرنسي، يخرجون على الناس اليوم بأنهم مختلفون يتقاذفون الإتهامات والصفعات الكلامية، فيما اللبنانيون يعرفون بأن خلافات المتصارعين ليست إلا على الحصص والأدوار، فتاريخهم يشهد أنهم سرعان ما يرممون علاقاتهم حماية للنظام الذي يرعى وينظم مصالحهم. وأبرز ما في هذه المسرحية الجديدة، أنه يراد منها الهاء الناس عن كثير من الحقائق، أبرزها أنه ممنوع صناعة رئيس جمهورية للبنان، من قبل شعبه؛ والأهم، أن آخر هموم المتنطحين لمنصب الرئاسة، هو تحقيق مطالب الناس وحل مشاكلهم وتخفيف معاناتهم، الناتجة عن فساد أهل السلطة والحكم.
وبكلام أوضح، هل سمع أحد من اللبنانيين مرشحاً أو طامعاً بكرسي قصر بعبدا، يعد اللبنانيين باعادة أموالهم التي سرقها منهم كبار الزعماء والنافذين وأصحاب المصارف؟ أم هل وعد أحدهم هذا الشعب المسكين بأنه سيعيد له قيمة راتبه ودخله، التي إنخفضت مائة ضعف، قياساً على تراجع قيمة الليرة اللبنانية تجاه العملة الخضراء الأميركية؛ وقياساً على أسعار السلع وحاجات المواطن الضرورية، التي لم يعد بإمكان الكثيرين الحصول عليها؟ وهل جعل أحد من المسترئسين من منع التوطين قضيته، أو جعل إحدى همومه التصدي لأطماع العدو "الإسرائيلي" في الأرض والمياه والثروات اللبنانية؟ وهل طلع علينا أحد الحالمين بحكمنا، بموقف منه من دعوات التقسيم والفدرلة و"الإستقلال" المالي، لزواريب الطوائف وقراها وأحياءها. وهل سيكون لرأس الشارع بلدية مستقلة عن طرفه المقابل، في زمن يتطلب دمج البلديات في إتحادات تؤمن الخدمات وتوحد الإمكانات؟
والأخطر الذي يصل إلى حد الخيانة، هل سمع اللبنانيون تبريراً من السياسيين، لإنتظارهم الموقف الأميركي أو الفرنسي أو السعودي، قبل حسم موقفهم الجدي من إسم الشخص الذي سيتولى مجلس النواب تسميته رئيساً؟ وهل أن مجلس النواب هو فعلاً من يختار الرئيس، أم أن الخارج هو الذي يقرر من هو رئيس لبنان، فيما مجلس النواب مجرد خشبة مسرح وكومبارس لتنفيذ القرار الخارجي؟
مسرحية ينفذها زعماء الطوائف بحماس، يريدون بها جر جمهورهم للإنخراط فيها، فينسى أولوياته وأوجاعه، ويسير خلف الذين سرقوا امواله الخاصة المودعة في المصارف؛ وأهدروا أمواله العامة بسرقتهم خزينة الدولة؛ وبحمايتهم لمهندس الفساد والسرقات ومنظم توزيع الحصص، حاكم مصرف لبنان، الذي شعر الخارج بحجم جرائمه المالية، فقام يحاكمه ويحاسبه، فيما لم يشعر المسؤولون اللبنانيون بهذه الجرائم حتى الآن.
مسرحية صراع الطوائف، التي بدأ إشعالها، يراد منها التعمية بدخانها على الواقع المزري. وأن يسكت المواطن اللبناني على فضيحة حمل لائحة من الأسماء ليختار منها الرئيس الفرنسي رئيساً للبنان. أو سؤال آخرين سفير هذه الدولة أو تلك، عن رأيه بهذا الإسم أو ذاك لاختياره رئيساً. أو سفر هذا المسترئس أو ذاك، إلى هذه الدولة وتلك، لنيل بركتها وموافقتها. وهذا الأمر يجعل النظام اللبناني يقف عارياً حتى من ورقة التوت، بوضوح مخجل أكثر مما كان يتعرى في مناسبات مماثلة.
وما نشاهده هذه الأيام، هو أن أركان هذا النظام البالي إستهلكوا كل الاعيبهم وأرانب أكمامهم؛ وباتوا مكشوفين أمام معانات الداخل وضغوط الخارج، لفرض شخصية تعمل في خدمة مصالح هذه الدولة أو تلك. فيما المطلوب رئيس يكون لكل لبنان وليس رئيساً لقسم صغير منه. وهذا لن يتكرس إلا بالغاء الطائفية السياسية، التي ترعى الفساد وتحمي الفاسدين. وبأن ينتخب الرئيس بإرادة الداخل وليس بأوامر الخارج. وهذا لن يحصل طالما أن اللبنانيين مستبعدون عن إبداء رأيهم بمن يرأس دولتهم. فيما الرئيس الحقيقي القادر على الحكم؛ وليس تمضية ست سنوات في الفشل، هو الذي ينتخبه الشعب مباشرة وليس عبر التعليب المصنع في مجلس النواب.