سقوط الحريرية الاقتصادية ــ عدنان الساحلي

الجمعة 26 أيار , 2023 12:01 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

بسقوط رياض سلامة، يمكن الحديث عن سقوط لآخر أهم وأقوى معاقل مشروع "الحريرية الاقتصادية"؛ التي جاءت بسلامة، من ضمن مشروع أميركي للهيمنة الكاملة على لبنان واقتصاده الهش؛ ولاستتباعه لمشروع "الشرق الأوسط الجديد"، بما رسمه ذلك المشروع من إخضاع كامل للبنان؛ وجعله رأس حربة لأنظمة التطبيع العربية مع العدو "الإسرائيلي"؛ وتابعاً ومنبطحاً أمام ذلك العدو، لقاء تسوله حفنات من مكرمات أنظمة النفط، التي إضطرت لاحقاً لأن تخطوا في تطبيعها مع الكيان الذي يغتصب فلسطين، سافرة بوجهها، بعد أن فشلت في ضرب قوى المقاومة، فسقط المشروع وأصبحت المقاومة والممانعة صاحبة اليد الطولى في كل المنطقة.

ويتجنب معظم المتابعين في السياسة والمال، الإشارة إلى "حريرية" حاكم مصرف لبنان، الذي بات ملاحقاً ومطارداً من أكثر من قضاء أوروبي ومن "الأنتربول" الدولي، فالكلام عن "حريرية" سلامة هو تذكير برجل اغتيل بجريمة مدوية، توزعت الاتهامات حول من وقف خلفها يميناً وشمالاً، لكن الواقع أن الذين أرسلوا الراحل رفيق الحريري لينفذ مشروع التخلص من المقاومة فيه، هم الذين قتلوه، بعدما فشل في تنفيذ مشروعهم، فاغتالوه في جريمة دموية لينفذوا بدمه ما عجزوا عن تنفيذه بسياساته، فهو تحول في أواخر أيامه إلى التنسيق الكامل بل واليومي مع قيادة المقاومة، على طريقة الاحتواء، فكانت جريمة اغتياله وسيلة لإشعال فتنة بين المسلمين في لبنان. والدليل الدامغ على دقة هذا الكلام، أن ابنه ووريثه السياسي سعد الحريري، كاد يكون ضحية للسبب ذاته، لولا أن تداركته الأيدي وانقذ من براثن القتل والتصفية، عندما احتجز في الرياض بأمر من حكامها، لأنه رفض، أو فشل في إشعال فتنة تكون فخاً للمقاومة، يلهيها عن صراعها مع العدو الصهيوني.

تولى سلامة حاكمية مصرف لبنان منذ عام 1993، بدعوة من الرئيس الراحل رفيق الحريري، بعد خبرة عشرين سنة من العمل في الأسواق الماليّة والبورصة في مؤسسة "ميريل لينش". وقد عرفه الحريري وأُعجب بأدائه. علماً أنّ الحريري نفسه دخل الحياة السياسيّة في تلك المرحلة أيضاً، آتياً من عالم المقاولات والتعهّدات والمشاريع العقاريّة في المملكة السعوديّة. وكان من ضمن الفريق الذي استعان به الحريري، ليكون الى جانبه ويتولى ضبط استقرار سعر صرف العملة الوطنية، بعدما شكل اللعب والمضاربة بقيمة هذه العملة وسيلة للإطاحة بحكومة الرئيس الراحل عمر كرامي، وطريقا لوصول الحريري إلى رئاسة الحكومة ليشكل أولى حكوماته، في تحرك نفذته بعض أجهزة الدولة، التي انزلت عناصر منها بثياب مدنية وأحرقت إطارات في الشوارع، لتصوير الأمر على أنه احتجاج شعبي ضد حكومة كرامي.

وحاكم المصرف المركزي في لبنان، أعطاه قانون النقد والتسليف أبرز ما تملكه الدولة اللبنانيّة من صلاحيّات سياديّة ماليّة ونقديّة، مثل صناعة النقد بالعملة المحليّة والحفاظ على قيمتها، التي تحدد القدرة الشرائيّة لرواتب العاملين ومداخيلهم. والسهر على سلامة النظام المصرفي، الذي يضم مدّخرات المقيمين والمهاجرين. وتنظيم وسائل الدفع التي يقوم عليها الاقتصاد المحلّي وقطاعاته المنتجة.

والجدير بالذكر، أن أبرز سمات تلك المرحلة التي عمل فيها سلامة "أمين صندوق" لحكومات الحريري، هو الاتجاه نحو فتح أبواب الاستدانة على مصاريعها. وتحويل الدين العام، بتشريع من مجلس النواب من العملة الوطنية إلى العملات الصعبة وتحديداً الدولار الأميركي. ويسجل أن كل الذين تولوا هذه الأيام حماية رياض سلامة ومنع التعرض القضائي له، أو عزله ومحاسبته، هم انفسهم غطوا تشريع تحويل الديون الحكومية أيام الحريري إلى العملات الصعبة. وهم كانوا في ذلك الوقت أجنحة وريش وأعضاء طائر الفساد، الذي شكل رفيق الحريري رأسه في ذلك الوقت. وهم أركان الفساد في لبنان حالياً، الذين أثروا وهربوا اموالهم إلى الخارج، فيما اللبنانيون يعانون من موت القيمة الشرائية لعملتهم ومن البطالة. وتتوجه أجيالهم الشابة نحو الهجرة والبحث عن عمل ومصدر رزق، في مختلف أرجاء العالم.

تخلص أصحاب مشروع إفقار لبنان وتجويع شعبه وإخضاعه من رفيق الحريري، لكن معاونه المالي رياض سلامة واصل مهماته، في إفلاس خزينته وفي دعم طبقة محدودة من السياسيين واصحاب المصارف، على حساب اغلبية اللبنانيين. وواصل سياسته في اعتماد الاقتصاد الريعي، مقابل إهمال الزراعة والصناعة. وطبق هندسات مالية كانت بحق سرقة موصوفة للأموال العامة لصالح تلك القلة المتحكمة برقاب اللبنانيين وبمفاصل دولتهم. واتخذ من سياسة رشوة الفاعليات والنافذين والأبواق الإعلامية نهجاً. وهو ما كان رسمه رفيق الحريري سياسة له، حيث رشى معظم قادة السياسة وزعماء القوم. الم يقل عنه الرئيس سليم الحص أنه "الراشي الأكبر" في مانشيت نشرته إحدى كبريات صحف تلك المرحلة، بعد ان وصل به الأمر لإهداء الحص طائرة خاصة أرفقها بقوله :"إن النبي قبل الهدية". فكان أن تنازل عنها الحص لصالح الدولة.

ونفذ سلامة ما اعتمدته الحريرية من سياسات ريعيّة مدمرة للاقتصاد الوطني، عبر تشجيع الربح السهل الذي تحققه المصارف والمضاربات في العقارات وتضخيم الدين العام، على حساب إهمال جميع القطاعات المنتجة كالزراعة والصناعة. وهندس سلامة هذا النهج المالي لحكم الحريري، فأمعن في إفساح المجال للمصارف برفع نسبة استثماراتها في الدين العام اللبناني والتسليفات العقاريّة من دون حسيب أو رقيب.

واليوم يلاحق سلامة، الذي يحمل جنسيّة ثانية هي الفرنسيّة، حيث يتقفّى المحققون آثار عمليّاته الماليّة في جميع أنحاء أوروبا. ويواجه اليوم تهمًا تبدأ بالاختلاس وتبييض الأموال في سويسرا؛ والنيل من مكانة الدولة الماليّة و التزوير والإثراء غير المشروع في لبنان؛ وصولاً إلى التآمر الجنائي وغسل الأموال في إطار عصابة منظمة في فرنسا. وفي لوكسمبورغ، قررت مؤخراً السلطات القضائيّة فتح قضيّة جنائيّة جديدة، للبحث عن مصدر ثروة سلامة. وتواصل السلطات جمع المعلومات حول تحويلاته المصرفيّة وممتلكاته في ألمانيا وهولندا وبلجيكا تمهيداً للسير بالقضايا الجنائيّة بحقّه.

لكن في لبنان، بدلا من أن يتحمّل سلامة مسؤوليّة السياسات النقديّة التي أوصلت البلد إلى هذا الانهيار، مازال يتمتع بحماية الفاسدين في السلطة ويدير التعامل مع تداعيات الأزمة، بإجراءات مشبوهة، لأنها تخدم فئات محددة في طريقة توزيع الخسائر. بيد أن سلامة فشل، رغم كل إجراءاته المالية الإجرامية بحق اللبنانيين، في تنفيذ مشروع تطويع اللبنانيين بعد افقارهم واذلالهم، لإجبارهم على تكوين اكثرية تعادي المقاومة وترفضها وتسقطها، فكان عقابه التخلص منه، مثلما اعتادت قوى الهيمنة والتبعية والتسلط التخلص من أزلامها، بعد فشلهم في تنفيذ مهماتهم، أو بعد انتهاء أدوارهم.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل