أقلام الثبات
منذ اتفاق الطائف وما تلاه من تغييرات دستورية، حوّلت صلاحيات الرئيس اللبناني الى مجلس الوزراء مجتمعاً، وعدّلت الحصص التي تتقاسمها الطوائف في النظام، ساد شعور لدى المسيحيين (خاصة الموارنة) بالتهميش وتأكل دورهم، بعد أن تمّ تكريس هذا "التراجع في النظام" حيث أن القوة والصلاحيات والمناصب التي كانوا يتمتعون بها في السابق قد تقلصت ووُزعت على الطوائف الأخرى، وتحوّل رئيس الجمهورية اللبنانية من حاكم فعلي، الى حَكَم.
عملياً وواقعياً، لا يحكم النظام السياسي اللبناني بدستوره فقط، بل هناك المواثيق والأعراف، وما يسمى "الميثاقية" التي تعني حق الفيتو الممنوح للطوائف مهما صغر عددها حين تجد أن ممارسة الحكم أو إقرار القوانين يهدد حقوقها أو وجودها أو مصالحها. وهكذا، سار لبنان، منذ الاستقلال، باتفاقيات ضمنية أو مقوننة بين الطوائف على تقاسم السلطة والمراكز في الإدارات والمؤسسات العامة تبعاً لمعايير عددية واقتصادية واجتماعية وتاريخية وسياسية.
وخلال عقد ونيّف بعد اتفاق الطائف، تحوّلت "الغلبة" الدستورية التي شعر بها المسيحيون في النظام، الى واقع معاش من قبلهم، حيث تمّ إقصاء ممثليهم، والاستعاضة عنها بممثلين للمسيحيين يختارهم السوريون أو الرئيس الراحل رفيق الحريري، أو سواهم من القوى الأخرى التي حكمت لبنان بعد الطائف. حتى القوى المسيحية التي أيّدت اتفاق الطائف، ومنهم البطريرك الماروني نصرالله صفير، الذي كان أول من غطى اتفاق الطائف لم يؤخذ رأيه بعين الاعتبار في القرارات الهامة، وهكذا، تحوّلت واقعياً معادلة "لا غالب ولا مغلوب" في الطائف، الى "غالب ومغلوب أكيد"، برأي المسيحيين. وتعمق شعور "الغلبة" الذي أدى الى إحباط مسيحي عارم خاصة في السنوات التي تلت مقاطعة الانتخابات الشاملة عام 1992، والتي أوصلت العديد من النواب المسيحيين بعدد أصوات لا يتجاوز 100 صوت في قانون أكثري معتمد.
بعد عام 2005، بدأت تتحسن المعادلات لدى المسيحيين، حيث باتت أحزابهم تستطيع أن توصل العدد الأكبر من نوابهم الى البرلمان وتختار وزراءها في الحكومات، وذلك بالتحالف مع الأحزاب والقوى الأخرى، حيث ساعدت التحالفات المسيحية مع المسلمين أن تكسبهم قوة سياسية بالتحالف والتضامن مع حلفائهم (تحالف القوات- المستقبل/ تحالف التيار الوطني الحر- حزب الله). وبعد وصول الرئيس ميشال عون الى الرئاسة، حاول استخدام ما تبقى من صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور كانت الممارسة قد قضت عليها، وتآكلت بفعل "الغلبة" التي أشرنا اليها سابقاً. واليوم، يشعر المسيحيون بأن هناك من يحاول إعادة عقارب الساعة الى الوراء، الى حقبة التسعينات من القرن العشرين، حيث كانت الطوائف الاخرى تختار للمسيحيين ممثليهم.
حتى الشرط الذي اشترطته القوى والكتل النيابية على ميشال عون لانتخابه رئيساً، أي أن يكون لديه تأييد مسيحي (وهو اساساً كان يمتلك حينها أكبر كتلة نيابية مسيحية)، والذي اضطره لعقد تفاهم معراب مع القوات اللبنانية، لم يعد يعني شيئاً للقوى الأخرى، ومَن اشترطه سابقاً، تغافل عنه اليوم. لا شكّ أن الخطابات التهديدية، ومنها تهديد المسيحيين بأن التسوية قادمة فإما يسيرون فيها أو تأتي عليهم، وأنهم لم يتعظوا من التاريخ، تشير الى محاولة إشعار المسيحيين بـ "غلبة جديدة"، فالعبارة الأخيرة، تشير بالتحديد الى تسوية الطائف "التاريخية"، التي أريد منها أن تبني لبنان التعددي وتقيم توازناً في النظام بين الطوائف، لكن الاستقواء في الداخل بالتواطؤ مع الخارج حوّلها الى غالب ومغلوب، وهو ما يشعر المسيحيون بأنهم يواجهونه مجدداً.
بالنتيجة، إن محاولات الغلبة لن تبني وطناً، والظروف الداخلية والاقليمية والدولية الحالية مغايرة عما كان عليه الحال في التسعينات. لكن يجب التنبه الى أمر مهم وهو أنه لا يمكن أن تتم "غلبة" المسيحيين اليوم إلا إذا دخل أحد أطرافهم في تسوية منفصلة، تماماً كما حصل خلال الطائف. وعليه، إذا كان من غلبة ستحصل بعد ذلك، فسيكون حينها المسيحيون قد غلبوا أنفسهم بأنفسهم، ولا نفع في تباكيهم مجدداً على ما ضاع.