أقلام الثبات
مرة جديدة يكتشف اللبنانيون أنهم ليسوا أصحاب القرار في إدارة شؤون بلدهم. وأن أصحاب الشعارات الطنانة الرنانة، مثل "السيادة والإستقلال"، التي يكررونها مع كل حدث وعند كل منعطف، ليست إلا تعابير جوفاء سرعان ما يتخلون عنها، على أعتاب السفارات وعلى أبواب أصحاب القرار في دول الهيمنة والتسلط العالمية. ويكشف الصراع الدائر حول شخص رئيس الجمهورية المقبل، أن المعركة ليست لبنانية خالصة. بل أن معظم القوى المحلية لا تملك قرارها في هذا الشأن، حيث نرى وفودها وممثليها يتنقلون من هذه العاصمة إلى تلك، بحثاً عن دعم من هنا وتزكية من هناك، أو كلمة سر من هنالك. ليتبين أن المعركة الحقيقية ليست معركة أشخاص لإيصال فلان أو علان إلى قصر بعبدا فحسب، بل هي صراع على الولاء السياسي لمن سيجلس على كرسي الرئاسة الأولى؛ وعلى الدور الذي سيؤديه الرئيس العتيد.
وهناك من لا يخفي علاقاته وارتباطاته، فيما يتخفى آخرون خلف الصمت ووراء ضجة "فيتوات" هذه الدولة أو تلك، على هذا المرشح أو ذاك، لتصبح شعارت "السيادة والإستقلال" التي طالما اتحفنا بها مدعوها، مجرد كذبة وبضاعة معروضة في سوق المناصب السياسية والإرتباطات المالية والتبعية الخارجية. ولا يتحرج الإعلام اللبناني ومعه كثير من السياسيين، من الإشارة إلى الادوار الأميركية والفرنسية والقطرية والسعودية، بالتدخل في الشأن الرئاسي وفي الشروط التي تضعها تلك الدول، كمعبر إجباري لكل من يريد الوصول إلى كرسي قصر بعبدا. فالطامعون بالرئاسة كثر، لكن معظمهم يتحرك من خلف الستارة. وحتى الآن هناك مرشح جدي واحد هو سليمان فرنجية، الذي لا ينكر أحد أنه جزء من الطبقة السياسية الحاكمة، له ما لها وعليه ما عليها.
لكن المميز ان الرجل لا يخفي أنه صديق للمقاومة وسورية. في حين أن من يرفضونه ويشنون حربهم الإعلامية والسياسية عليه، يتحركون خلف شعارات عامة، ثبت أنهم لطالما باعوها وتخلوا عنها عند أول منعطف، مثل "السيادة" و"الإستقلال" و"بناء الدولة"، فهم جزء ممن سبق ان حكم وشارك في تهديم الدولة وخلخلتها وفي إيصال البلاد إلى ما هي عليه، من فوضى وانهيار إقتصادي ومالي وإجتماعي. والملفت أن أحداً من الطامحين لموقع الرئاسة لم يتحدث عن محاسبة من أوصل البلاد إلى هذا الإنهيار المالي. ولم يطمئن المواطن الذي استولت المصارف على أمواله، إلى أن الحلول المقبلة لن تكون على حسابه. أو أنه سيسير في دعوات الفدرلة والتقسيم، أو يحافظ على وحدة البلد. وحتى الساعة، لم يخرج على الناس من يقول أنه لا يخشى على مصالحه المالية.
وأثبتت الأحداث المتلاحقة، أن معظم المسؤولين والسياسيين اللبنانيين يخافون على مصالحهم الشخصية. وأول ما يخشونه هو العقوبات الأميركية، خصوصاً ما يطال منها أموالهم وثرواتهم المودعة في الخارج، لذلك لا يتجرأون على إتخاذ موقف يخالف الإرادة الأميركية وتوجهاتها، التي تبحث هذه الأيام عن كبش محرقة، توجه من خلال إستهدافه رسالة للذين يحاولون إستبدال ولائهم التاريخي للأميركي، بحمايات جديدة، عمادها المصالحات في المنطقة واللعب على صراع الدول الكبرى، التي تتحدى الأحادية الأميركية في إدارة شؤون العالم، بفرض تعددية قابلة للتوسع ولا تقف عند حدود الدورين العسكري الروسي والإقتصادي الصيني. وهذا المناخ الدولي والإقليمي الجديد، بالتأكيد يعمل لغير صالح الذين يعزفون على وتر العداء للمقاومة. وحسب إتجاه التطورات، فإن رياح الرئاسة قد تهب باتجاه من يحفظ علاقات لبنان الحالية، لكن مع الإتجاه شرقاً، للإستفادة من العروض العديدة لإنتشال لبنان من أزمته وإطلاق مشاريع خدماتية وإنشائية، تعيد عجلة الإقتصاد إلى دورانها، خصوصاً في ما يعرضه الصينيون والإيرانيون والروس على لبنان.
وهو ما يشكل فرصة لمنع القبول بوعود المساعدات المشروطة المعروفة المصدر والأهداف. كذلك، يبدو الفراغ الرئاسي الحالي منعطفاً، قد يخسر فيه أصحاب الشعارات الفارغة والتهويلية بالفدرلة والتقسيم، ليس ماء وجوههم فحسب، بل الكثير من أوراقهم، إذ ما الذي يمنع في حال إستمرار حالة التشنج الحاصلة، من مطالبة قوى وازنة بإعادة القرار للشعب باعتباره مصدر السلطات. وذلك عبر نقل إنتخاب الرئيس من الحالة المعلبة التي تدار في مجلس النواب، إلى أيدي الشعب مباشرة، بجعل إختيار الشعب للرئيس عبر الإقتراع المباشر، مع المحافظة على هويته الطائفية، لطمانة جمهورها. فاللبنانيون لن يقبلوا بأن يستمر الخارج بـ"تعيين" رئيس لهم. فيما مجلس النواب ليس سوى أداة إخراج مسرحي للقرار الخارجي. وبالتالي ستخسر السفارات وأتباعها معركة جديدة، تضيق بعدها مساحة المناورة وينطفىء معها دلع وصبيانية دعاة الفدرلة والتقسيم.