أقلام الثبات
مثل صيني يقول: "لا تلتقط بندقية لتقتل فراشة".
لا أتت الصين بالجيش الأصفر الى الشرق الأوسط، ولا استحضرت أساطيلها، ومع ذلك استطاعت تحقيق إنجاز الإنابة عن أميركا في المنطقة، ورعاية الإتفاق السعودي الإيراني، وفرضت نفسها قطباً دولياً بلا أجندة استعمارية عسكرية تستوجب جيشها، ولا عرض عضلات على الطريقة الأميركية في تحريك الأساطيل باستعراضاتٍ لم تجنِ منها أميركا سوى صيد السمك.
لم تحمل الصين بندقية على الفراشة، سيما وأن الطائرات الأميركية المتطورة سوف تنسحب كما الفراشات من سماء الشرق الأوسط، حيث ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال الأميركية منذ أيام، أن الولايات المتحدة سترسل طائرات هجومية قديمة من طراز "إيه-10" إلى قواعدها في الشرق الأوسط، بدلاً عن المقاتلات الحديثة المتعددة المهام التي ستنقلها من الشرق الأوسط الى مناطق أخرى في آسيا والمحيط الهادي وأوروبا، لردع الصين وروسيا. ويقول خبراء، أن طائرات "إيه-10" عمرها أربعة عقود، وهي ضعيفة للغاية وستقتصر مهامها في الشرق الأوسط ضد مقاتلي المليشيات المسلحة بعتاد خفيف، بمعنى، أن أميركا قررت التخفيف كثيراً من فعالية تواجدها العسكري في المنطقة.
مثل صيني آخر يقول: "في صراع الماء مع الصخر، يفوز الماء بمرور الوقت"، وقد مضى من الوقت عقود على الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، فاستنزفت أميركا نفسها، وأنهكت الحلفاء ولم تنتصر على الخصوم، ولعل الإنهاك الأكبر قد أصاب ربيبتها "إسرائيل"، سواء في قساوة المواجهة مع الفلسطينيين، أو لجهة الأزمة الداخلية حول التعديلات القضائية التي بلغت ذروتها في الشارع الذين بات شارعين: أحزاب المعارضة الرافضة لطروحات حكومة نتانياهو وضع اليد على القضاء من جهة، وأحزاب اليمين المتطرف الداعية الى تقييد صلاحيات القضاء لصالح الكنيست والحكومة، وما بين الشارعين وجد نتانياهو نفسه بين نارين، نار حلفائه من الأحزاب الدينية المدعومين من حاخامات التطرف الذين يؤيدون لجم القضاء، ونار أحزاب المعارضة ومعهم الجماهير الشعبية الرافضة مغادرة الشارع قبل تراجع نتانياهو عن قرارات حكومته نهائياً وليس تعليقها، ما أثار قلق أميركا على الوضع الداخلي في الكيان الصهيوني، وفتحت واشنطن خط اتصالٍ ساخن مع نتانياهو للإطلاع على تفاصيل التطورات بالدقيقة، لا سيما أن الأمور لامست الخطورة نتيجة شلل القطاعات العامة والخاصة والتمرُّد داخل صفوف الجيش وقوى الإحتياط.
وفي أجواء تفتت جبروت الصخر الراقد على صدور شعوب الشرق الأوسط، بثقل الحصار الأميركي الذي بات عديم الجدوى، من بيروت الى دمشق وبغداد وطهران وصنعاء، جاءت الرعاية الصينية بعد سنتين من المفاوضات السعودية الإيرانية في سلطنة عُمان والعراق، لإغلاق آخر ممر لأميركا في إثارة الفتن عبر لعبة الكباش مع إيران لعرقلة إحياء الإتفاق النووي، خاصة أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أكدت مراراً، حسن تعاون إيران وشفافيتها في كل ما يتعلق بمنشآتها النووية ذات الإستخدام السلمي، ونسبة تخصيب اليورانيوم التي لا تشي بنوايا صناعة قنبلة نووية.
ولعل أهم ما تميزت به الحكمة الصينية في دخول الشرق الأوسط، أنها أمَّنت لنفسها ظهيراً أوروبياً غير مُعادٍ لدورها، خاصة عندما كررت عروض وساطتها لحل الصراع الروسي الأوكراني عبر الحوار السياسي، وهذا ما يريح أوروبا التي تحتاج السلام مع روسيا من البوابة الأوكرانية، بنفس حاجتها لعودة الغاز الروسي الى الشبكة العنكبوتية للأنابيب الروسية التي تتمدد في مختلف الدول الأوروبية، ولم تُعوِّض كل بواخر نقل الغاز العالمية نسبة مئوية تُذكر لتشغيل المصانع وتدفئة المنازل الأوروبية.
ونبقى في أوروبا، التي عينُ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عليها لِنَقلِ تطورها الى الشرق الأوسط، ويكرر القول مؤخراً وعلى مستوى التعهد الشخصي، أن الشرق الأوسط سيصبح أوروبا الجديدة في المستقبل القريب، وسمَّى بالإسم كل الدول الخليجية التي سوف تشهد ثورة حداثة تُضاهي أوروبا، وبات من مصلحته على الأقل "كمتعهِّد"، وقف الحرب على اليمن، وفتح ذراعيه لإيران من أجل السلام الضروري إقليمياً لتحقيق ما يصبو إليه، وتلاقيه إيران في منتصف الطريق للإنعتاق من الحصار الأميركي الظالم عليها، الذي أوقف حتى نشاط شركات الإستثمار الأوروبية العاملة على أرضها، سيما وأن حاجة إيران لترتيب وضعها الإقتصادي الداخلي قد بدأت خطواته منذ سنوات مع الصين وسواها عبر نظام المقايضة العينية، وانتهى بقدوم الصين لإنهاء الدور الأميركي والهيمنة الأميركية جزئياً، حتى على المملكة السعودية التي باشرت مؤخراً بيع منتجاتها البترولية لبكين باليوان الصيني...