أقلام الثبات
قبل أن اتابع مع سليمان فرنجية الحفيد ، اعود قليلا الى سليمان الجد ، الذي لا يمكن المزايدة عليه في مسيحيته ولا مارونيته ، واستشهد هنا بحديث لي معه في العام 1981، حيث تطرق الى ما يخطط للمسيحيين اللبنانيين ، ففي عام 1975، حضر الديبلوماسي الأميركي دين براون إلى لبنان في بدايات الحرب الأهلية، وخاطب الرئيس سليمان فرنجية قائلاً: "فخامة الرئيس لديكم 3 أيام لتغادروا لبنان، أتينا بالبواخر لإجلائكم".
فرد الرئيس فرنجية: "حضرة الديبلوماسي لديك 3 دقائق لتغادر هذه القاعة". وروى لي الرئيس فرنجية : "أنه حين خرج براون وكان هو خلفه هم أكثر من مرة ليخبطه بقدمه على قفاه، لكنه وحتى لايصل إلى ذلك، لم يستكمل عملية وداعه".
وعلى أثر القرار الاميركي ، بسحب مشاة البحرية الاميركية – المارينز من لبنان، في شباط 1984، ونقلهم إلى السفن والبوارج الأميركية، بالقرب من الساحل اللبناني، تفاقم مأزق الرئيس اللبناني انئذ أمين الجميل ، الذي أدرك أنه لا مفر من التعامل مع قوى المعارضة اللبنانية وسورية ، من دون اعتماد على دعم أميركي، بعد أن تراجع الرئيس ريجان، إثر نسف مقر قيادة (المارينز) في لبنان، في 23 أكتوبر 1983 عمّا كان قد أعلنه: "إننا لا نسمح لقوى الشر، أن تخرجنا من تلك المنطقة من العالم، التي لنا فيها مصالح حيوية".
هكذا، وجد أمين الجميل نفسه وحيداً في قصر "بعبدا"، يواجه مصيره، بعد أن هجره الذين راهن عليهم، إلى السفن الراسية أمام الساحل. وإزاء هذا التطور، كان على الرئيس الجميل، أن يعيد ترتيب أوراقه، على الصعيد الإقليمي، كمقدمة ضرورية لإنجاح الحوار الداخلي، الذي دعا إلى استئنافه، مؤكداً، للمرة الأولى، أن "كل شيء مطروح للتفاوض". وبدأ بالتنسيق مع الدبلوماسية السعودية خطوات :
- زيارة دمشق في آخر شهر شباط 1984 ، حيث التقى الرئيس الراحل حافظ الأسد وبحث معه جميع القضايا اللبنانية .
- الغاء اتفاق 17 أيار .
-استئناف مؤتمر المصالحة اللبنانية في لوزان السويسرية في 12 آذار 1984 .
وبعد أن اوشك المؤتمر على اصدار مقرراته النهائية ، وفيه تعديل بصلاحيات رئيس الجمهورية ، وافق عليها الرئيس الجميل وكميل شمعون وبيار الجميل ، كانت قنبلة الرئيس سليمان فرنجية برفضه التنازل قيد انملة عن صلاحية رئيس الجمهورية ، مؤكد انه في هذه الحالة فليأخذ المسلمون رئاسة الجمهورية بصلاحيات ناقصة، ولتكن رئاسة الحكومة بصلاحيات موّسعة للمسيحيين.
وما قصده الرئيس فرنجية هو أن التعديلات المقترحة تجعل رئيس الحكومة أقوى من رئيس الجمهورية. وبعد أن خيّم الصمت لحظات خرقه صوت الرئيس الشهيد رشيد كرامي الهادىء: موافقون. ولحظتئذ انتفض كميل شمعون صارخا: نحن لسنا موافقين. يذكر، انه 11 من تموز من عام 1973 اعتقل ضابط إسرائيلي في لبنان يحمل جواز سفر ألمانيا مزور باسم اورلخ لوسبرغ، حيث تبين فيما بعد أن اسمه الحقيقي داني ياتوم والذي اصبح مدير جهاز الموساد عام 1996 إلى 1998 ، وتم اعتقاله في حقل العزيمة في منطقة سير الضنية في شمال لبنان على يد قائد شرطة مدينة طرابلس انئذ النقيب عصام أبو زكي (عام 1973 ) ،وأدلى باعترافات واضحة أنه كان يراقب منزل الرئيس سليمان فرنجية في اهدن والقصر الجمهوري في بعبدا إضافة إلى تردده إلى محيط قصر المختارة ومحاولة التقاط الصور لمقر إقامة الشهيد كمال جنبلاط .
عودة الى سليمان الحفيد ، الذي حافظ على الارث العروبي للعائلة ، وتجاوز في كثير من المرات ، الألم والمرارات التي رافقته منذ نعومة اظفاره ، فيوم خروج سمير جعجع من السجن عام 2005 بعفو عن عقوبته ، بادر رئيس تيار المردة الى الاتصال به مهنئا ، وفور انتخاب البطريك بشارة بطرس الراعي عام 2011 ، جمع القادة السياسيين الموارنة الأربعة، لأول مرة في بكركي، أي الرئيس الحالي ميشال عون والرئيس الأسبق أمين الجميل وسمير جعجع ، وفرنجية الذي أعلن يومها أنه "سامح من دون أن ينسى".
ومع احتدام معركة رئاسة الجمهورية بعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان عام 2014 ، ثمة رياح قوية محلية وعربية ودولية بدأت تميل نحو سليمان فرنجية كانت قد صارت قاب قوسين أو أدنى من فرنجية الذي ضمن الأكثرية، وكثيرون اعتبروا أن رئيس تيار المردة هو الرئيس الاستقلالي ال13 للبنان . وهنا كان اعلان المرشح للرئاسة سمير جعجع ، تاييده للعماد ميشال عون ، وذلك ليس حبا بالجنرال ، انما لقطع طريق الرئاسة عن فرنجية .
علما ان مسيرة المصالحة بين فرنجيّة و جعجع كانت قد بدأت منذ سنوات، حين كُلّف الوزير السابق يوسف سعادة من قبل فرنجيّة وطوني الشدياق من قبل جعجع بإدارة الملف، وحصلت لقاءات عدّة بين الرجلين وتطوّرت العلاقة، قبل أن تتدهور مع ترشيح الرئيس سعد الحريري لفرنجيّة إلى رئاسة الجمهوريّة. تعطّلت حينها المصالحة بين معراب وبنشعي، لتنتعش المصالحة بين الرابية ومعراب، للغاية التي ذكرنا .
بيد أن رئيس تيار المردة ، عض على جرحه مرة جديدة ، وتصافح مع رئيس القوات ، حين استضافت بكركي في شهر تشرين الثاني 2018 الرجلين ، وحصلت المصافحة وتبادل القبلات مع جعجع وفرنجية ، اكد البطريرك في كلمة له : "ما أجمل أن يجلس الأخوة معا. بهذه الصلاة استقبلكم اليوم والفرح في قلوبنا وقلوب جميع اللبنانيين. كثر فرحون في لبنان وخارجه، هم يحبون السلام والمصالحة والتعاون والتلاقي في سبيل الوطن وشعبه وفي سبيل قيام الدولة ومؤسساتها".
ترى هل كان جعجع جادا بهذه المصالحة ؟ الجواب عند رئيس حزب القوات الذي قال : "لن نقبل بسليمان فرنجية رئيساً للجمهورية تحت أيّ ظرف " ، مضيفا : "ق في السياسة يتموضع في المقلب الآخر ويصرّح بذلك بشكل واضح. خطّه غير خطّنا، ولن ننتقل من كوكب إلى كوكب آخر". ( انتهى )