أقلام الثبات
لسنا بصدد استحضار الروحانيات ولا تاريخ الأديان من آلاف السنوات، لو لم يكُن بعض العرب قد قرروا مؤخراً بناء السلام مع إسرائيل على قاعدة التطبيع بين أبناء الديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، استناداً الى وثيقة الأخوَّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك، التي وقَّعها البابا فرنسيس خلال زيارته للإمارات عام 2019 مع شيخ الأزهر احمد الطيب، وفعلاً، تم لاحقاً بناء مُجمَّع ديني في مدينة أبو ظبي، تحت مُسمَّى "بيت العائلة الإبراهيمية"، ويضمّ كنيس "موسى بن ميمون"، وكنيسة "القديس فرنسيس"، ومسجد "الإمام الطيِّب".
وإذا كان اليهود ينسبون أنفسهم الى إسحق، والعرب الى إسماعيل، وهما من أبناء ابراهيم، فقد كان أجدى قبل بناء الحجر في أبوظبي، تقييم شخصية قايين في اسحق اليهودي وهابيل في اسماعيل العربي، وركام العظام العربية من لبنان الى سوريا الى فلسطين على يد "قايين الإسحاقي"، يُبنى به بناياتٌ ناطحات على مدى تاريخ من الصراع مع مَن لا دين لهم على أرض واقعهم وحقيقتهم ولا أدنى أخلاق إنسانية.
ومع ذلك، نحن لا نتناول تقارب الأديان السماوية، ولا نقربها لا سمح الله من باب الكتب المقدسة، لكن هذه الهرولة في التطبيع بين "اسحق" و"اسماعيل" فوق أضرحة الشهداء والأرزاق والمدن والقرى العربية وخِيَم الأوطان المتنقلة، هل تُرضي اسحق وإسماعيل وإبراهيم وكل الأنبياء والمُرسلين عليهم السلام ؟! نعم، وسط هذه الأجواء الإبراهيمية التي لا يرفضها أحد من وجهة النظر الإنسانية- لو كانت الأجواء تحاكي الواقع- تم التطبيع بين الإمارات وإسرائيل في واشنطن برعاية أميركية عام 2020، أما التطبيع البحريني فقد تم إدراجه رسمياً تحت مسمى الإتفاقيات الإبراهيمية، وربما جاء الإتفاق السعودي الإيراني ليفرمل المزيد منها. وضمن برنامج "نقطة حوار" أجرته قناة "بي بي سي" منذ أيام، حول الإتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، كان هناك إجماع على أن كل دول المنطقة باتت مُنهكة، وكانت هناك مداخلات واقعية لكثيرين من مواطني دول عربية، إضافة الى المراسل العسكري الصهيوني إيال عليما.
الدكتور محمد الحربي من السعودية قال: أن هذا الإتفاق حصل بعد مباحثات لمدة سنتين وتم تتويجه برعاية صينية، وهو سوف يُحدِث تغييرات جيو سياسية في الشرق الأوسط، والخلاف السني الشيعي بين المملكة وإيران، على أهميته، يمكن تخطيه ضمن بند عدم تدخل أية دولة بشؤون دولة أخرى. ولعل أبرز ما ورد في تلك الحلقة، ما قاله الصهيوني إيال عليما، حول "إسرائيل" العاجزة عن فعل أي شيء لعرقلة هذا الإتفاق، وأن الوجود الصيني على رأسه قد غيَّب دور الولايات المتحدة عن المنطقة، وكل الترتيبات التي كانت تُريح "إسرائيل" في استكمال عمليات التطبيع مع دول عربية أخرى هي حكماً سوف تتوقف، ومفاوضات إعادة إحياء الإتفاق النووي مع إيران ستكون أكثر سلاسة بعد الإتفاق السعودي الإيراني، وهذا أكثر ما يُقلق الكيان الإسرائيلي المُرهق على المستويين الداخلي والخارجي.
وكائناً ما كانت ارتدادات هذا الإتفاق على الدول العربية، وهي ستحمل بعض الإيجابيات، وبشكلٍ خاص على لبنان وسوريا والعراق وفلسطين المحتلة، فإن تداعياته على "إسرائيل" ستكون قاسية، سيما وأنها عاشت وَهَم شنّ حرب على إيران بمباركة خليجية ودعم أميركي مباشر، لتأتي الصين للحلول مكان أميركا في أكثر ملفات المنطقة سخونةً، ليس بالجيش الأصفر، بل بقوة اقتصادها وتحالفاتها السياسية سواء مع روسيا او مع الدول العربية الوازنة، وقدرتها على إحلال اليوان الصيني بديلاً عن الدولار الأميركي لشراء المنتجات النفطية من السعودية، إضافة الى الكثير من السلع التي تتضمنها علاقاتها التبادلية التجارية مع أكثر من بلد. في الخلاصة، لم تأتِ الصين للتبشير بالرسالة البوذية في أرض اسحق واسماعيل، ولا هي تغزو بلدان الديانات الإبراهيمية، بل هي جاءت قطباً جديداً الى الشرق الأوسط، لكسر الآحادية الأميركية بالتضامن مع روسيا، التي استقبلت الرئيس الصيني منذ ساعات، فيما أميركا تجِد أولويتها الحالية على حدود أوكرانيا مع دول الإتحاد الأوروبي، ما دامت تعتبر نفسها مؤتمنة على أمن أوروبا من الدب الروسي، ويبقى للتنين الصيني ايادٍ ممدودة لصنع السلام الذي ترعاه التعددية القطبية، دون الإستهانة بأنيابه على كل قايين في هذا الشرق، سواء كان من سلالة اسحق، أو من سلالة اسماعيل وكان التطبيع المجاني مع جماعة اسحق من أحلامه التي انقضت..