أقلام الثبات
لم تهدأ عاصفة الاتفاق - الايراني - السعودي برعاية صينية، ويبدو أن العاصفة ستكون لها بصمتها فعلياً على المسار الجيوسياسي، الآخذ في التبلور على المستوى العالمي, لا بل أن العاصفة تسلك مسارها التصاعدي بثقة، مع كل خطوة تقدم الى الامام في تطبيق الاتفاق الذي وجد لينجح, خصوصاً أن الأطراف الموقعة, درست بدقة التداعيات المحتملة, ولا سيما العراقيل التي يمكن أن تواجه الاتفاق الهادف إلى استقرار المنطقة، والذي يفتح آفاقاً رحبة نحو غد أفضل, ومكانة دولية متزايدة, خلافاً لأهداف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المؤقت ,وسعيهما لتوسيع شقة الخلافات بين المكونات السياسية والدينية والمذهبية انطلاقا من مفاهيم ثقافية واقتصادية مدمرة تتيح لهما التغذي على شلالات الدم والدمار كي تتمكن من الاستمرار المسموم , والتحكم بمقدرات وثروات المنطقة .
في الافق مؤشرات هامة على ان الاتفاق في مساره العملي الصحيح, اولها اعلان وزير المالية السعودي محمد الجدعان قبل ايام, إن الاستثمارات السعودية في إيران يمكن أن تحدث سريعا جدا بعد الاتفاق. وقال الجدعان خلال مؤتمر القطاع المالي في الرياض: "هناك الكثير من الفرص لاستثمارات سعودية في إيران. لا نرى عوائق طالما سيتم احترام بنود أي اتفاق". طبعا هذا الاعلان يحمل رسائل جدية في طياته للقريب والبعيد, وقد رحبت ايران بهذا الاعلان الذي سيبصر النور بعد استكمال الاجراءات الدبلوماسية المقررة, ولعل اعلان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بأنه سيلتقي قريبا نظيره السعودي فيصل بن فرحان. ليس فقط جوابا معززا على المسار المتسارع في خطواته ,وانما ايضا المؤشر المهم بأنه تم الاتفاق مع السعودية على تبادل الزيارات الفنية لتهيئة الأرضية لإعادة فتح السفارات, ليحضر مؤشر اخر يعكس الخطى الجدية الصارمة من خلال الدعوة التي وجهها الملك سلمان بن عبد العزيز للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لزيارة الرياض. وتعزيز التعاون الإقليمي والاقتصادي بين البلدين". وطبعا فإن "الرئيس الإيراني رحب بدعوة العاهل السعودي، وأكد استعداده لتعزيز التعاون".
ان هذه المؤشرات ذات الدلالة الواضحة متبوعة بما شدد عليه المسؤول في وزارة النفط الإيرانية محمد صادق جوكار, اي "توسيع نطاق الاتفاقيات الإيرانية السعودية في مجال الاقتصاد والطاقة، مع إمكانية الوصول إلى أسواق دول مجلس التعاون الخليجي", وعلى "ضرورة تمديد الاتفاق الأمني والسياسي بين إيران والسعودية ليشمل مجالات الاقتصاد والطاقة". يعكس قوة الاتفاق معتبرا "إن الاقتراب من المملكة العربية السعودية يمكن أن يخلق الانطباع بأنه يمكننا الحصول على مثل هذه الاتفاقية مع دول أخرى متحالفة مع هذا البلد، مثل الكويت والإمارات العربية المتحدة. إن الدول العربية، وخصوصاً السعودية والإمارات، في حاجة ماسة إلى الغاز في موسم الصيف، وهو ما يمكن أن يكون الخطوة الأولى بالتعاون مع دول منطقة الشرق الأوسط في مجال تصدير الغاز، إذا سمح الاستهلاك المحلي". مؤشر هام ايضا له دلالة استراتيجية: وهو توقيع الاتفاق الأمني المشترك بين طهران وبغداد. الذي وقعه أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الادميرال علي شمخاني ومستشار الأمن الوطني العراقي قاسم الأعرجي. بحيث راى شمخاني انه: "مع التنفيذ الكامل للاتفاق الأمني بين إيران والعراق ، سوف تتسارع التنمية الشاملة للعلاقات".
وأشار إلى أن "الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعتبر المصدر الرئيسي لانعدام الأمن في المنطقة والعراق هو السياسات والإجراءات الأميركية المسببة للأزمات "وإن أميركا مستمرة في الأذى ولا يمكن التسامح مع استمرار هذه العملية التي تعطل الأمن والاستقرار في المنطقة". - أن جواب قاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي العراقي، بتأكيد الروابط مع ايران حمل رسالة لمن عمد الى تدمير العراق اذ قال : "لا شك أن الاتفاق بين البلدين لإزالة التحديات الأمنية المفروضة على العلاقات الإيرانية ــ العراقية يخدم مصالح البلدين الصديقين والشقيقين". وأشار إلى أن "بغداد ستبذل قصارى جهدها لتنفيذ هذا الاتفاق بشكل كامل ولن تسمح لأي جماعة أو دولة باستخدام الأراضي العراقية لخلق حالة من انعدام الأمن في إيران". كما ان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بعث علانية رسالة شديدة لمن يواصل زرع الشقاق بين البلدين, بقوله أن "الاتفاق الأمني الموقع بين طهران وبغداد يدل على رؤية المسؤولين العراقيين والإيرانيين بأن أمن البلدين ليس منفصلا عن بعضهما البعض"، وأنه "بناء على دستور العراق والتعهدات المتبادلة، فإن بغداد لن تسمح لأي طرف باستخدام أرض العراق للمساس بأمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية". لقد تزامنت زيارة الادميرال شمخاني الذي زار موقع اغتيال الجنرال قاسم سليماني , وابو مهدي المهندس مع رئيس المجلس التنسيقي السعودي العراقي ماجد القصبي الى العراق الذي لعب دورا مهما في التقارب السعودي ــ الايراني على مدى أكثر من سنة من خلال استضافة بعد سعي دؤوب , خمس جولات من المحادثات الواضحة بين الرياض وطهران قبل ان تتوج النتائج في الصين .
لا شك ان للصين مصلحة كبرى في تقارب ايران والسعودية الدولتين الغنيتين بمصادر الطاقة التي يحتاجها مليار و500 مليون صيني والاقتصاد الصيني المنافس عالميا , وهنا تحضر أيضا أهمية الحفاظ على استقرار المنطقة, لمواصلة انسياب الحاجات الهامة للصين من اجل الحفاظ على قوة اقتصادها, وهذا الاخير يمكن تثميره في النفوذ السياسي , وهذا كله يقلق اميركا وتغولها في الاستئثار الاقتصادي والسياسي والعسكري باعتبار ان ذلك يمكن ان لا يقلص فقط من النفوذ الاميركي , لا بل انه يمكن ان يقضي عليه, اذا اتضحت الصورة الاكثر شمولا من خلال التحالف الصيني - الروسي - الايراني - الذي يمكن ان يكون رحبا امام السعودية , كما هو امام سوريا ان روسيا تقاتل منذ سنة حلف شمال الاطلسي الذي لم يترك معها "للصلح مطرح", ليس فقط لتزويده اوكرانيا بمقدرات هائلة من السلاح والمال, وفرض عقوبات على روسيا, وتوريط الاوروبيين المغلوب على امرهم في حروب اميركا, بل وهو الاهم, لأنه يريد ازاحة روسيا من المشهد الدولي ان المشهد الذي يتشكل في المنطقة, ومن ضمنه الاستقبال اللافت للرئيس السوري بشار الاسد في دولة الامارات, والحديث عن قرب عودة البعثة الدبلوماسية السعودية الى دمشق وزيارة وزير الخارجية السعودية الى العاصمة السورية, معطوف على المشهد العالمي بحيث فشل الغرب الجماعي في محاصرة روسيا, وابعاد الصين عنها, ليس الا مؤشر ابلغ في ان العالم الجديد, السياسي والاقتصادي بات في ايام المخاض الاخير ,وهو سيعيد اميركا الى حجمها الطبيعي.