مقالات مختارة
في آخر يوم من السنة الماضية كان سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية يبلغ 42 ألف ليرة، أما اليوم فأصبح 100 ألف ليرة، أي بزيادة نسبتها 138% خلال 72 يوماً. وقد تكون هذه الزيادة هي الأكبر منذ انهيار سعر الصرف في منتصف عام 2019، إلا أنها تأتي ضمن مسار متوقع، إن لم يكن حتمياً قياساً على السياسات التي اتّبعت لغاية الآن. فالقدرات الكبيرة التي كانت متاحة لدى قوى السلطة من أجل التدخّل وكبح الانحدار في بداية الأزمة، تقلّصت تدريجاً وصولاً إلى اللحظة التي نشهدها الآن والتي لا يمكن القول إنها تمثّل قعر الأزمة. فهذه السياسات، جعلت من القعر أمراً يصعب توقعه والتنبؤ به.
أهمية هذا التطوّر لا يتعلق بالرقم والأصفار الإضافية التي أضيفت على ما يوازي قيمة الدولار الواحد في الاقتصاد اللبناني، إنما يتعلق بالمرحلة المقبلة انطلاقاً من المسار كلّه الذي أوصل إلى الحالة الراهنة. ففي مطلع عام 2019 كان مصرف لبنان يملك موجودات بالعملة الأجنبية بقيمة 32.5 مليار دولار، وفي نهاية شباط الماضي بات يملك 9.7 مليار دولار، أي أنه أنفق نحو 22.8 مليار دولار. وهذا الإنفاق حصل على الشكل الآتي: في عام 2019 تراجعت قيمة الموجودات بالعملة الأجنبية بقيمة 2.9 مليار دولار، وفي عام 2020 تراجعت بقيمة 10.9 مليار دولار، وفي عام 2021 تراجعت بقيمة 4.9 مليار دولار، وفي عام 2021 تراجعت بقيمة 3.2 مليار دولار، وفي أول شهرين من السنة الجارية تراجعت بقيمة 695 مليون دولار. هذه الدولارات أنفقت على الدعم بشكل أساسي الذي نُهب، وعلى تمويل عمليات تهريب أموال مشبوهة، وعلى المصارف أيضاً لتغطية حاجاتها الخارجية التي يقال إنها ذهبت إلى جيوب مودعين «ذي أولوية». طبعاً كانت هناك حاجة لدعم السلع الأساسية والغذائية لتخفيف وطأة الأزمة على الأسر المقيمة في لبنان، إنما كانت كلفتها كبيرة إذ يُقدّر أن النهب يتجاوز نصف الأموال التي خُصّصت لهذا الدعم، بينما غالبية الأموال الأخرى التي أنفقت كانت عبارة عن نهب منظّم. وهذه كانت أهمية إقرار قانون لـ«الكابيتال كونترول» منذ اليوم الأول، لأنه يقوّي القدرة على التحكّم في إنفاق هذه الأموال بدلاً من أن تكون هذه القدرة محصورة بيد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومجلسه المركزي الطيّع.
الحفاظ على هذه الأموال كان ضرورياً لأن هذه الموجودات بالعملة الأجنبية تمثّل الذخيرة الوحيدة التي يملكها لبنان في مواجهة الأزمة، وهي بُدّدت في سياق استراتيجية تستهدف تذويب خسائر القطاع المالي من دون أي رغبة أو سعي لكبح الأزمة. بمعنى أوضح، لم يكن ضمن هذه الاستراتيجية ما يتعلق بالحفاظ على القوّة الشرائية لليرة اللبنانية، بل على العكس كان الهدف تحطيم الليرة ليصبح الحفاظ على المصارف المفلسة أمراً متاحاً، وهذا يجب أن يبقى ضمن معادلة يكون فيها مصرف لبنان مسيطراً طوال الوقت على المسار الانحداري لسعر الصرف وتحكّمه بانهيار الليرة بشكل منظّم. لأن الهدف المقنّع من هذه العملية، كان إجبار الناس على قبول فكرة انهيار سعر الليرة بمجرّد وجود البديل. وهذا ما تعكسه أرقام الإنفاق من الموجودات بالعملة الأجنبية في عام 2020، إذ كانت في ذروتها ثم بدأت تنخفض مع التخلّي عن الدعم ليبقى الإنفاق من الموجودات محصوراً بالأمور التي يمكن تصنيفها ضرورية؛ سواء لبعض عمليات الدعم، أو لتمويل نفقات للدولة لا بدّ منها، أو حتى لتمويل عمليات تنطوي على طابع سياسي، أو لتمويل عمليات مضاربة على العملة.
فمع انتهاء دعم السلع الأساسية والغذائية، انتقل مصرف لبنان إلى مرحلة «صيرفة» والتعميم 161. يقضي هذا التعميم بأن يضخّ الدولارات في السوق مقابل سحب الليرات التي سبق أن ضخّها. سعر الضخّ على «صيرفة» ما يتيح استفادة شبه جماعية من الفرق بين سعر الدولار على منصّة «صيرفة» وسعر الدولار في السوق الحرّة. ومنذ نهاية 2021، لغاية اليوم، كرّر مصرف لبنان هذه العملية أكثر من مرّة، إلى أن استنفدت مفاعيلها في مطلع السنة الجارية مع تراجع حجم الموجودات بالعملة الأجنبية إلى مستوى 10 مليارات دولار. فبات تدخّله في السوق لضخّ الدولارات، يقتصر على ما يتبقى من دولارات جمعها بعد حسم النفقات «الضرورية». عملياً، لم يعد بإمكانه إنفاق الكثير من الدولارات للتدخّل في سعر الصرف، ولا سيما أن الاستمرار في ضخّ الدولارات عبر التعميم 158 لتذويب قسم من الودائع يتطلب وجود نحو 5 مليارات دولار في المدى المتوسط، كما أن مصرف لبنان لا يمكنه أن يتخطّى التقديرات بأنه يحتاج إلى إعادة رسملة بقيمة 5 مليارات دولار.
باختصار، هوامش التدخّل في السوق صارت في أضيق مستوى، وهذا الأمر ترافق مع أوضاع سياسية شديدة الهشاشة، وسياسات حكومية تغطي الممانعة التي قادها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ومع قرارات اتّخذت من أجل ضمان مصالح فئات في المجتمع على حساب أخرى. فقد قرّرت وزارة الطاقة أن تسعّر المازوت بالدولار، ثم قرّر وزير السياحة أن يسمح لكل المؤسّسات السياحية التسعير بالدولار، وسمح وزير التربية للمدارس الخاصة تقاضي الأقساط بالدولار، ثم أتى فوقها قرار وزير الاقتصاد ليسمح لأصحاب السوبرماركت التسعير بالدولار. عملياً، استعمال الليرة بات محصوراً جداً. فإلى جانب موظفي القطاع العام، هناك أصحاب محطات البنزين، وبعض الدكاكين... الليرة لم تعد مرغوبة، وبالتالي تقلّصت قدرة مصرف لبنان على التدخّل في السوق لجمع الدولارات وإعادة ضخّها بواسطة الآليات التي ابتدعها مثل «صيرفة» والتعميم 161. لكن مفاعيل الخطوة الأخيرة التي قام بها وزير الاقتصاد لم تظهر بعد، أي أن ارتفاع سعر الدولار إلى 100 ألف ليرة لا يتضمن مفاعيل استغناء قسم كبير من المقيمين عن الليرة في تعاملاتهم لدى السوبرماركت. وإذا أضيفت طبقة أخرى من التخلّي عن الليرة، فإن مصرف لبنان سيكون عاجزاً عن جمع الدولارات.
إذا كانت الليرة غير مرغوبة، فمن سيريد الحصول عليها وبأي سعر؟ وهنا يمكن تفسير جانباً أساسياً مما يحصل في القطاع العام. فالقطاع العسكري والأمني حصل على تمويل خارجي بالعملة الأجنبية، بينما موظفو الإدارة العامة والأساتذة يحاولون جهدهم من أجل ربط قسم من رواتبهم أو المخصّصات التي يتقاضونها، بالدولار بشكل غير مباشر. مطلبهم بالحصول على ليترات من البنزين تأتي في هذا السياق، وربما ستليها أفكار أخرى في السياق نفسه. المهم، أن الليرة هي السلاح الوحيد الذي يملكه مصرف لبنان اليوم في مواجهة الأزمة، وهي باتت أقلّ قيمة من قبل بكثير، والناشطون في الاقتصاد من شركات وأفراد يدركون هذا الأمر تماماً ويعلمون أن مصرف لبنان بات شبه متوقف عن ضخّ الدولارات، وبالتالي يتنافسون مع بعضهم البعض للحصول على الدولارات المتدفقة من الخارج. هي تأتي على شكل تحويلات المغتربين، أو على شكل تحويلات أممية للسوريين النازحين في لبنان، أو على شكل مساعدات ذات طابع سياسي وأمني لمنظمات سياسية ومدنية. الكلّ يريد أن يحتفظ بدولارات للأيام السوداء، أو للمضاربة والربح عندما يقرّر مصرف لبنان أن ينفق من موجوداته. مسار الليرة والدولار واضح للعيان. الانحدار بات يتسارع ويقترب من الانفلات وفقدان السيطرة أكثر مما كان عليه في السنوات الثلاث والنصف الماضية. الأصفار الإضافية على سعر الصرف ستصبح مجرّد انعكاس للتفكّك البنيوي في المجتمع والاقتصاد. مزيد من الهجرة والبطالة والفقر وتدهور أكثر حدّة في الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه واتصالات...
محمد وهبة ـ صحيفة "الأخبار"
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً