أقلام الثبات
يحتار اللبنانيون في مواجهتهم للاحداث العاصفة بهم وبوطنهم، هل ان ما يشاهدونه طبيعي أو مفتعل، إذ انهم تعودوا على تمثيليات زعمائهم وحكامهم، في إصطناع الحوادث والمصائب لهم، لإلهائهم وحرف بوصلتهم عن مشاكلهم الحقيقية التي تقلق أيامهم ولياليهم، المتراوحة بين حرب الإفقار والتجويع والإخضاع التي يتعرضون لها؛ وبين تهديدات العدو "الإسرائيلي" اليومية بخرق الحدود الجنوبية والأجواء والمياه البحرية، كل ذلك لإيصالهم إلى حالة الركوع أمام سياسة الهيمنة والفرض، التي يسوقهم إليها الغرب بقيادة أميركا ومعها دول النفط العربية بقيادة المملكة السعودية، بتواطؤ الفاسدين في السلطة من زعماء الطوائف واصحاب المصارف والمحتكرين ومالكي الوكالات الحصرية.
لكن وعلى الرغم من ألم العوز ومعاناة إنخفاض قيمة العملة الوطنية، اكثر من خمسين ضعفاً، أمام الدولار الأميركي، تبقى ذاكرة المواطن عالمة بأهداف الخارج المهيمن، المتلاقية مع الفاسدين في الداخل، لفرض شروط صندوق النقد الدولي، المجحفة بحق الفقراء وأصحاب الدخل المحدود؛ والرامية إلى السيطرة على كل مفاتيح الإقتصاد الوطني ومصادر الثروة الوطنية؛ وكذلك لفرض شروط سياسية يعرفها اللبنانيون جيداً.
والمواطن العادي بات خبيراً بخبث الكلام عن ضرورة القبول بشروط صندوق النقد الدولي، فنظام التمويل الدولي هو أداة للهيمنة على الدول الفقيرة. والصندوق نفسه هو واجهة هذا النظام، يخدع الشعوب والدول بأنه طوق النجاة للخروج من مشكلاتها، لكنّه في الواقع، يعمق مشاكلها ويفاقمها، لجرها للقبول بإملاءات تفرضها الدول التي تمول وتدير ذلك الصندوق. وما حالة الفقر والعوز التي تعانيها بعض الدول، إلا نتيجة النهب الذي تمارسه الدول الكبرى وادواتها المحلية. وكذلك، استمرارها بالهيمنة وفرض السياسات وفرض الحكومات الفاسدة، التي تغرق البلاد في مديونية تكون مدخلا للقبول بشروط مجحفة، تحت حجة "الإنقاذ". آخر مطالب ما يسمى "الجهات الدولية المانحة" من المعنيين في السلطة، كان تعليم أبناء النازحين من الإخوة السوريين، المنهج التربوي اللبناني، اي دمجهم، تحت طائلة وقف الدعم الذي تقدمه تلك الجهات ولا يصل منه إلى الطلاب اللبنانيين ولو نذر يسير. ويتذكر اللبنانيون أن "الجهات الدولية المانحة" سبق أن هددت لبنان بخفض تصنيفه الإئتماني ونفذت تهديدها، لتفرض عليه إملاءاتها السياسية والإقتصادية، ضمن سياسة ما تسميه "تعميم ثقافة الإقراض لتنفيذ المشاريع الاقتصادية، في الدول التي تحتاج إلى المساعدة".
وسبق للحكومات اللبنانية ان قبلت توصيات ومقررات مؤتمر "سيدر" الخاص بلبنان ومؤتمر بروكسيل-3، الخاص بالنازحين السوريين. الأول قرر "توريط" لبنان بديون، فيما هو عاجز عن الإيفاء بفوائد ديونه السابقة. والثاني "ورط" لبنان بربط عودة النازحين السوريين إلى بلدهم، بإنجاز الحل السياسي فيه، بما يعني توطينهم لاستعمالهم في ابتزاز الدولة السورية والضغط عليها في المراحل السياسية والأمنية المقبلة. وكذلك، فرضت تشغيلهم في لبنان، بقروض أوروبية يسددها اللبنانيون مع الفوائد، حتى لا يهاجر النازحون الى البلدان الغربية. وعلى الرغم من الحالة الكارثية التي يعيشها اللبنانيون، ما تزال بعض الأصوات تروج لتمرير ما لم يطبق بعد من شروط صندوق النقد الدولي، التي لم يعمل بها بلد في العالم إلا وزادت معاناة شعبه وزاد فقر الفقراء فيه.
وللتذكير، فإن سياسة توريط لبنان بالديون، بدأت مع إيحاء صريح بان سدادها سيتم بالسياسة، عبر الإنضواء في سياسة "السلام والتطبيع" مع العدو "الإسرائيلي"، التي كانت جارية في ذلك الوقت. وهذه الأيام نسمع بين وقت وآخر تأكيدات بأن "صندوق النقد الدولي بات ممراً الزامياً وهو يفتح باب الخارج"، حسب قول كثيرين، ممن يتجاهلون أن هذا الخارج، الذي يشيرون إليه، هو الذي يحاصر لبنان لإجبار شعبه على القبول بشروطه الإقتصادية والسياسية. وهذا ما كشفه فشل جر الغاز والكهرباء من مصر والأردن، لأنه مشروط بتلبية مطالب سياسية.
ولو وضعنا في حسابنا أن معظم مطالب صندوق النقد، جرت تلبيتها من قبل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، من رفع الدعم عن استيراد المحروقات والمواد الغذائيّة والمستلزمات الطبيّة وكل أصناف الأدوية، كما تجنبت الحكومات تصحيح أجور العاملين في القطاع العام. وربطت أسعار جميع السلع بسعر الدولار في السوق الموازية. وتركت العملة الوطنية تنهار إلى الحضيض أمام الدولار الأميركي. كما نفذت ما سبق أن طلبه راس الحكومة في تسعينيات القرن الماضي، بحجة تشجيع الإستثمار، فضربت نظام الحد الأدنى للأجور وعطلت عمل الضمان الإجتماعي؛ ومدت أيديها على أموال المضمونين وتعويضاتهم. فإننا نجد أن ما تبقى لكسر إرادة اللبنانيين و"صهينتهم" و"أسرلتهم"، بل وتبديل ديانتهم ليصبحوا "إبراهيميين"، على غرار ما يجري في بعض بلدان الخليج المطبعة مع العدو الصهيوني، بات ينحصر بخطوات قليلة ستنفذ تحت حجة ضرورة إرضاء صندوق النقد.
وابرز تلك المطالب التي يجري تنفيذها حالياً، هو "تطفيش" قسم كبير من العاملين في القطاع العام، عبر تركهم فريسة للجوع والعوز وتجاهل مطالبهم، بل وحتى تجاهل إضرابهم المستمر عن العمل، لأن رواتبهم لم تعد تكفي لتغطية كلفة تنقلهم إلى أعمالهم. ويأتي بعد ذلك التصرف بالذهب؛ ووضع أيدي "المستثمرين" على ما تبقى من أملاك ومؤسسات الدولة، عبر بيعها لهم بابخث الأثمان. وما أولئك المستثمرون إلا سارقوا المال العام أنفسهم. وما الصراع الدائر حول بنود قانون "الكابيتال كونترول" إلا لتوزيع الأنصبة بين كبار القوم. فالحلول ستأتي على حساب الفقراء والمستضعفين، في حين أن الزعماء وأصحاب النفوذ وكبار المتولين هربوا أموالهم إلى الخارج. ويمنعون القضاء من التعرض لراس فساد المصارف، حاكم المصرف المركزي. كما يمنعون محاكمة أصحاب المصارف، الذين أخلوا بعقودهم مع المودعين واذلوهم ومنعوا عنهم أموالهم. ويدرك اللبنانيون جيداً، أن الأزمة المالية التي تواجههم هذه الأيام، مفتعلة، حيكت ما بين مندوبي دول الهيمنة وبعض أركان السلطة، عبيد صندوق النقد، الذين تولوا خلال العقود الثلاثة الماضية ضرب ركائز الإقتصاد اللبناني، عبر محاربة الصناعة وتهميش الزراعة وترك الحبل على غاربه للمصارف، التي يملكون معظم أسهمها.
كما يعرف اللبنانيون أن حكوماتهم تتجاهل عمداً المس بمكامن الهدر والسرقة في البلاد، الموزعة على المرجعيات الطائفية والسياسية. ويدركون أن رموز هذا النظام الفاسد من أساسه، لا يمكن ان ينقلبوا على انفسهم ويتحولون إلى رعاة صادقين وصالحين لمواطنيهم، بل تراهم يحورون ويدورون ليعودوا إلى دويخة "صندوق النقد"، بما يؤكد إستمرار الأزمة وطول المعاناة، ما لم يتخلص اللبنانيون من هذا النظام، لإقامة نظام المواطنة والغاء الطائفية السياسية، بما يوقف المحاصصة ويقفل أبواب الزبائنية، فيخسر زعماء الفساد أدواتهم ويرتاح الشعب من استغلالهم له.