أقلام الثبات
كلما حاول أصدقاء سوريا التقدم خطوة في مساعدة سورية في عملية إنهاء القتل والتدمير، تمهيداً لإعادة الإعمار وإعادة المهجرين واللاجئين إلى ديارهم كلما سعت الولايات المتحدة ومن معها من الحاقدين للعمل على إعادة خلط الأوراق, واستعادة سنوات الحرب الحامية بأشكال مختلفة, بغض النظر عن كارثة الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا, وازدياد المعاناة الإنسانية على كل المستويات, مع أن الكارثة كشفت الوجه القبيح, والباطن الخبيث, لأدعياء الحقوق الانسانية والبشرية, والرفق بالحيوان, والحفاظ على الطبيعة التي تلوثت بأفعالهم القذرة. قبيل وقوع الزلزال فتحت روسيا كوة أمل، في جدار العلاقات السورية – التركية, وحصلت اتصالات على مستويات مختلفة, وكاد أن يكون هناك لقاء بين رئيسي البلدين يتم التحضير له من قبل وزراء الخارجية, كما أن وزير الخارجية الإيرانية حسين عبد اللهيان, قام بجولة شملت لبنان وسوريا وتركيا, وحتماً روسيا, وبدأت التحضيرات الفعلية مع الملفات, لطي الصفحة القاسية.
بينما كان هناك مساع تحت الطاولة وعلى جوانبها، من أجل انفتاح عربي حقيقي على سورية، وخصوصاً من الدول التي دعمت المنظمات الإرهابية ومولتها، سيما أن الجميع بات على قناعة بأن هزيمة سورية، وتدمير دولتها صار مستحيلاً. لم يعلق أو يتوقف مسار التطبيع مع دمشق المسار, لا بل ازداد زخماً, وان لم يكن في الواجهة الإعلامية جراء حدوث الزلزال الكارثي, وأقدمت غالبية الدول العربية على خطوات توسم فيها العاملون من أجل سورية خيراً, وإن كان من الباب الإنساني, سيما أن لها مضامين سياسية جرى التعبير عنها من قبل البعض, تشبه إلى حد بعيد غالبية مواقف الدول العربية, من حرب الناتو على روسيا, وظهرت مؤشرات لعودة شرايين العلاقات العربية مع سورية إلى مرحلة ما قبل الانقياد التام إلى واشنطن والغرب عموماً، عندما جرى إشعال سورية من الداخل لتدميرها وإنهاء دورها الريادي في المنطقة.
لقد شعرت الولايات المتحدة أن الكرة خرجت من يدها, لا بل كان الشعور الأقسى بأنها سوف تطرد من الملعب في ضوء المؤشرين المذكورين, ولذلك عمدت إلى سلسلة إجراءات من التهديد الى العقاب وإلى استخدام الإرهاب مجدداً والتلاعب باقتصادات الدول ـــ الضغط الاقتصادي ـــ كما في مصر, إلى الضغط السياسي الجماعي لعرقلة المسار الإيجابي عربياً, وللنيل من روسيا باعتبارها العدو رقم واحد لأميركا وحلف الناتو .
سارعت واشنطن أولا للضغط على تركيا من خلال رفض التقارب التركي ــ السوري ــ بشكل أساسي وخصوصاً أن تركيا وعلى لسان رئيسها شدد على الاجتماع مع نظيره السوري بات أمرًا ملحًا من أجل "الوصول إلى سلام في المنطقة", مع أن أنقرة لها ما لها من خلافات مع واشنطن منذ البدء بشأن العديد من الملفات في شمال سوريا وبالأخص الموقف الأمريكي من الوحدات الكردية التي تسيطر على شمال شرق سوريا وتعتبرها تركيا عدوها اللدود وتعمل على محاربتها والقضاء عليها.
اجتمع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن مرتين وبحثا الملف السوري، وناقشا جميع جوانب الأزمة السورية، وجدد الطرفان التزامهما بعملية سياسية في سوريا، لكن بيان الخارجية الأميركية عن المباحثات التي جرت لم يشر لأي نقاش بين الوزيرين بخصوص التطبيع التركي مع سورية، ما أثار الشبهات التحريضية من واشنطن المنزعجة بشدة من اجتماع وزيري دفاع سورية وتركيا إلى جانب رؤساء الاستخبارات في كلا البلدين برعاية روسية، والذي كان يفترض أن يستتبع بلقاء جاويش أوغلو بوزير خارجية النظام فيصل المقداد. لقد اسفرت واشنطن عن كراهيتها وتوجسها من التقارب بين أنقرة وحكومة دمشق، على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس قائلًا: "نحن لا ندعم الدول التي تعزز علاقاتها أو تعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد، الديكتاتور الوحشي".
إن الوقاحة التي تتسم بها الولايات المتحدة غير مسبوقة بحيث تطلق النعوت التي تلتصق بسياساتها على اعدائها, مع ممارسة أعلى الضغوط على أصدقائها أن خالفوها الرأي, كأي دكتاتورية أو زعيم عصابة, تماماً كما قال نيد برايس: "عندما يتعلق الأمر بسورية، فقد أوضحنا علنًا وبشكل خاص أيضًا،(لوغلو) أننا لا نريد أن نرى أي إجراءات أحادية الجانب لديها القدرة على إعاقة التقدم الهائل الذي حققه المجتمع الدولي في جهود مكافحة داعش، لقد تم تدمير ذلك المشروع بسبب التنسيق والتعاون القوي من جانب عشرات الدول التي هي جزء من التحالف العالمي لمواجهة التنظيم".
اليس من المشين الفاجر ان تعتبر الإدارة الأميركية ان التقارب التركي السوري يعيق محاربة داعش, وداعش هو صناعة أميركية هدفها محاربة سورية, وفق اعترافات بلد المنشأ على لسان وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلنتون, ومسؤولين أميركيين آخرين، وهذه المرة كان تحرك "داعش": ان القناع المستتر خلفه دعم ارهابيي داعش الذين تحركوا بمواكبة التصريحات الأميركية الرافضة للتقارب, بشن سلسلة هجمات انطلقت من قرب مخيم الهول الذي يقع تحت رعاية السلطة الأميركية ، حيث يوجد أكبر تجمع للدواعش, وتمثلت تلك الجرائم بقتل مواطنين سوريين كانوا يجنون ثمار الكمأ, ما يذكر بهجمات داعش الأولى عندما اطلقها الاميركيون, ومن ثم جاؤوا بتحالفهم الشرير, وسيطروا على أهم منشآت سورية النفطية لسرقتها, وهذه السرقة ما تزال فصولها مستمرة.
لم تقف واشنطن واتباعها الغربيون عند الضغط على تركيا لعرقلة التقارب مع سورية عند هذا الحد, فتوجهت برسائل قاسية الى الدول العربية, التي لم تتمكن من الوقوف على الحياد, او الشماتة بسورية عندما ضرب الزلزال، فقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس: "إن الولايات المتحدة تحث المجتمع الدولي على أن لا يترافق تقديم المساعدة لسورية في أعقاب الزلزال بتطبيع العلاقات معها، نعتقد أنه يمكننا وكذلك جميع دول العالم تلبية هذين المطلبين في نفس الوقت: توفير الاحتياجات الإنسانية للشعب السوري دون إعادة النظر أو رفع مستوى العلاقات مع الرئيس السوري بشار الأسد".
هذا التهديد المباشر للدول العربية خصوصاً, أتبعته واشنطن بإرسال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي الى إحدى القواعد التي تسيطر عليها الولايات المتحدة في شمال شرقي سورية في زيارة تشبه الاغارة غير المعلن عنها مسبقا، بذريعة تقييم فعالية الحرب ضد جماعة "داعش" الإرهابية بالإضافة إلى سلامة القوات الأمريكية في سورية. وقال الجنرال ميلي في تصريح للصحافيين المرافقين له: إنه يعتبر "نضال الولايات المتحدة والتشكيلات الكردية ضد داعش ناجحا, معتبرا ان الاحتلال الأميركي في سورية مبررا".
لا شك أن الولايات المتحدة تعتمد على قواتها العسكرية، والغزوات كأداة رئيسية للوصول إلى الأهداف السياسية المعلنة. وتشمل «أدوات الضغط» على روسيا وسورية بنتائجها غير الأخلاقية:
• أولاً: العمل العسكري عبر تدريب وتسليح وتمويل منظمات إرهابية ومنظمات مدنية , وكذلك الاحتلال الأميركي المباشر مثلما هو في سورية حيث ينتشر مئات الجنود والمتعاقدين في قواعد عسكرية معلومة ,والمزودين بمعدات عسكرية متطورة في شرق الفرات وقاعدة التنف. وهولاء يسيطرون على ربع مساحة سوريا و90 في المائة من ثرواتها الاستراتيجية.
• ثانيا: العقوبات الاقتصادية التي تؤلم الشعب اكثر من المؤسسات الحكومية .
• ثالثا: ابهار العالم بكذبة التحالف الدولي ضد «داعش»، ما يوفر نفوذ دبلوماسية دولية من نحو 84 منظمة ودولة.
• رابعا: استخدام التأثير الديبلوماسي عبر منصة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.
• خامسا: عرقلة جهود التطبيع العربي أو الأوروبي مع دمشق.
• سادسا: عرقلة ووقف إعمار سوريا ومساهمة دول عربية, سيما ان روسيا تحترم التزاماتها سواء في إعادة الاعمار, او في توسيع دائرة التهدئة .
• ذا كان موقف واشنطن بما يحتويه من سوء, فان الأوروبيين الذين كان ينظر اليهم بانهم عقلانيون الى حد ما , لم يظهروا انهم ليسوا دمى أميركية , وقد قال مسؤول الشؤون الخارجية والأمنية الأوروبي جوزيف بوريل: "لن نتوقف عن فرض العقوبات الاقتصادية، ولن يكون هناك تطبيع من أي مستوى، ولن ندعم جهود إعادة الإعمار أبداً حتى نشهد بدء عملية الانتقال السياسي في سوريا". ان هذه الصورة تستدعي موقفا عربيا, على قدر اهل العزم, اذا أراد العرب, ان يكون لهم مكان تحت الشمس، والأفضل ان يتقدم لبنان الصفوف باعتبار الامر فرصة بعد التجارب المريرة من الولايات المتحدة ويرفض ان يكون مطية غربية اكان ضد سوريا, البوابة العربية الوحيدة, او روسيا التي كانت الى جانب لبنان في كل الظروف الصعبة , ومع قضاياه العادلة.