أقلام الثبات
سجل القضاء، بجهاته المختلفة، هدفاً صريحاً في مرمى كل من: رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزير داخليته بسام مولوي، لتدخلهما غير القانوني في عمل القضاء ومحاولتهما تعطيل عمله، لمنعه من ملاحقة المخالفات المالية، التي إرتكبها أصحاب المصارف بحق المودعين عموماً. ومحاولته وقف التحقيق في ما يعتبر "جرائم مالية" وتبييض أموال، حسب التهم التي وجهتها المدعية العامة في جبل لبنان، القاضية غادة عون، إلى أحد المصارف. كما سُجل هدف ممائل في مرمى القوى السياسية، التي اعتادت حماية مخالفات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجددت له، رغم الإنهيار المدمر الذي اصاب مالية الدولة والشعب في لبنان، حيث ادعى المحامي العام الاستئنافي في بيروت، القاضي رجا حاموش، على سلامة وشقيقه رجا؛ وماريان الحويك مساعدة سلامة وكل من يظهره التحقيق "بجرائم اختلاس الأموال العامة والتزوير واستعمال المزور والاثراء غير المشروع وتبييض الأموال ومخالفة القانون الضريبي".
وكان ميقاتي وجه كتاباً الى وزير الداخلية والبلديات، بسام مولوي، طلب فيه "عدم تأمين المؤازرة، أو تنفيذ اي اشارة أو قرار يصدر عن القاضية غادة عون، في اي ملف يثبت انه قد جرى تقديم طلب مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن اعمال عون؛ وذلك الى حين بت المرجع القضائي بهذا الطلب".
وإستناداً الى كتاب ميقاتي، أصدر مولوي كتاباً وجهه الى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والى المديرية العامة للأمن العام، طلب فيه "ضرورة التقيد بكتاب رئيس مجلس الوزراء المذكور آنفاً". إلا أن القاضية عون لم تسكت، بل ردت بتغريدة طالبت فيها “السلطات الدولية في البرلمان الأوروبي، المساعدة في الدفاع عن سيادة القانون"، مشيرة الى أن "رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتدخل بشكل فاضح في العدالة، من أجل وقف التحقيقات التي أجريها في قضية المصارف وتبييض الأموال، من خلال مطالبة وزير الداخلية بسام مولوي بعدم تنفيذ أوامر مدعي عام جبل لبنان".
وكانت القاضية عون إدعت على بنك عودة، بجرم تبييض الأموال، فرد أصحاب المصارف، بإعلان الإضراب العام. واقفلوا أبواب مصارفهم في وجوه اللبنانيين، الذين تحولوا خلال السنوات الأخيرة، إلى متسولين على أبواب المصارف وصرافاتها الآلية، ليحصلوا شهرياً على ما تقتّرة لهم، من أموالهم المودعة لديها، بعد إخضاعها لـ"كابيتال كونترول" غير رسمي وغير قانوني، قررته المصارف وشريكها حاكم مصرف لبنان. إضافة إلى الجريمة الأكبر بتسببها المقصود، في الإرتفاعات الهائلة في سعر صرف الدولار وانهيار قيمة الليرة أمامه.
المشكلة التي فضحها تصرف رئيس الحكومة، أن المصارف رفضت عند بداية الأزمة، إقرار قانون "كابيتال كونترول" يمنع تهريب الأموال ويضبط حركتها ويضع سكة لحل الأزمة المالية القائمة، ليتسنى لها تهريب الاموال الى خارج لبنان. والآن تريد هكذا قانون، وفق شروطها، لمنع المودعين من الادعاء عليها امام القضاء. وجاء تصرف ميقاتي، ليؤكد للبنانيين أن جمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان والحكومات المتعاقبة، هم ثلاثي الجريمة المرتكبة بحق لبنان والمودعين. هذا الإتهام، هو ما تقوله ردود الفعل القضائية على تجاوز ميقاتي للقانون والدستور. فمجلس القضاء الأعلى دعاه ومولوي "عملاً بمبدأَي فصل السلطات واستقلالية السلطة القضائية، المكرّسين دستوراً وقانوناً وتأسيساً عليهما" إلى "الرجوع عن القرارين المذكورين، اللذين يمسّان بهذين المبدأين". ونادي قضاة لبنان رفض القرارين واعتيبر أن "ما فعله ميقاتي ومولوي خطيئة كبرى".
كذلك أعلن وزير العدل في حكومة ميقاتي، هنري خوري "أن كتاب الرئيس ميقاتي الى وزير الداخلية غير قانوني، لأن هذه صلاحية النائب العام التمييزي". هذه المواقف آزرت بشكل او بآخر، المدّعي العام في جبل لبنان القاضية غادة عون، التي تحولت منذ أن فتحت ملفات تبييض وتهريب الأموال، إلى مدعية عامة تمثل تطلعات الشعب اللبناني، بغض النظر عن حملات التشويه والشيطنة السياسية التي يوجهها لها أبواق زعماء الطوائف واصحاب المصارف.
وباتت هدفاً لتلك الأبواق، بعد استدعائها العديد من رؤساء مجالس إدارات المصارف اللبنانية، في شكاوى الإثراء غير المشروع وتبييض الأموال وتهريبها؛ وحجز أموال المودعين والتحويلات المالية إلى الخارج. وكانت القشة التي "قصمت ظهر بعير" المصارف، تحقيقها مع رئيس جمعية المصارف ورئيس مجلس إدارة بنك بيروت سليم صفير وآخرين، من ضمن تحركها، إثر شكوى متفرّعة من الشكوى المقدّمة ضد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. خصوصاً بعدما تبين لعون أنّ مصارف لبنانية استحصلت على قروض من مصرف لبنان خلال الأزمة المالية، إضافة إلى الهندسات المالية. فكان تدخل ميقاتي ضمن حسابات إنّ المنظومة المالية والسياسية والاجتماعية الحاكمة، المشكلة من تحالف زعماء وممثلي الطوائف واصحاب المصارف، التي تشكل الفك الثاني للعقوبات والحصار الأميركي على لبنان، تشبه أحجار الدومينو، إن سقط أحدها يسقط الباقون.
وحسب المعلومات المتداولة، فإن قيمة القروض التي حصلت عليها المصارف من رياض سلامة، بلغت أكثر من 6 مليارات دولار أميركي. وهي قروض قدّمت لها بين 30 أيلول 2019 و25 كانون الثاني 2020. ولأن بعض المعنيين يتهرب من الإستجواب، أو قد يستلزم من عون إصدار قرار بتوقيفه، تدخل ميقاتي لوقف مؤازرة القضاء. ووفق بعض وسائل الإعلام، فإن كتاب ميقاتي الذي حوله أيضاً إلى جهاز أمن الدولة؛ وهو الوحيد المؤازر لقرارات القاضية عون، أتى عقب تلقيه كتابين من مصرفين، يطلبان فيه من رئيس الحكومة الإيعاز للضابطة العدلية بفروعها كافة، عدم تنفيذ القرارات الصادرة عنها، في ملف التحقيق بتهريب المصارف 9 مليارات دولار بعد 17 تشرين الأول 2019. فبأي منطق يطلب مصرفان من رئيس الحكومة التدخل في عمل الضابطة العدلية، لوقف التحقيق حول تهريبهما ودائع المودعين، رغم إقفال المصارف.
وبأي منطق ينفذ ميقاتي أوامر المصارف بوقف عمل القضاء، في أحد أهم الملفات التي سرعت في انهيار الأوضاع في البلاد. فيما بقي هو صامتاً عن إقفال المصارف أبوابها بوجه المودعين وتلاعبها بسعر الصرف. وهناك من يقول بأن البطريرك بشارة الراعي، بدوره، أجرى اتصالات برئيس مجلس القضاء الأعلى وبميقاتي، للضغط عليهما لاتخاذ قرار واضح بكف يد القاضية عون، التي أصدرت قراراً بختم "سيرفر" بنك بيروت في منطقة المنصورية، بالشمع الأحمر "كي لا يتم التلاعب بالداتا داخله، في انتظار عودة رئيس مجلس إدارة البنك سليم صفير من الخارج"، قبل أن يتبين أن الـ"سيرفر" موجود في مقر الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية! هي فضيحة الفضائح لهذا النظام الطائفي ولأركانه، خصوصاً أمام صمت النواب وتجاهلهم لما يجري، بما يؤكد حقيقة أن أعضاء المجلس النيابي هم ممثلون للمصارف، التي يشاركون في عضوية مجالس اداراتها، أكثر من تمثيلهم للذين إنتخبوهم. فماذا سيبرر ميقاتي فعلته وبماذا سيبرر النواب صمتهم؟