أقلام الثبات
في شهر شباط قبل واحد ثلاثين عاما ، شهدت إيطاليا واحدة من أوسع حملات مكافحة الفساد في تاريخ إيطاليا، والأكبر في العالم، وأطلق عليها "الأيادي البيضاء".، وذلك حينما قرر القاض الإيطالي الشجاع انطونيو دي بيترو، خوض حملة شرسة ضد الفساد والمافيا افضت إلى اعتقال أكثر من 1300 شخص من السياسيين والحزبيين والنواب ورجال الأعمال، كما خضع للتحقيق نحو 1500 شخص من كبار موظفي الدولة وأصحاب الأموال والصناعيين، كما حقق القاضي دي بيترو مع اكثر من 50 نائباً ورؤساء سابقين للحكومات.. والحصيلة كانت اعتقال 3 آلاف شخص، ونصف نواب إيطاليا المنتخبين جرت إدانتهم.
وعلق القاضي دي بيترو بعد تقاعده مشيراً إلى سرطان الفساد: "في زمن الأيادي البيضاء، ظن الناس أنهم يشاهدون معركة بين الشرطة والحرامية، اليوم لدى الناس إحساس بأنهم يشاهدون حرباً بين عصابات عدة من اللصوص".
عندنا في لبنان ، تكاد حكاية الفساد والهدر ونهب المال تتطابق مع طرفة سرت على وسائل التواصل الاجتماعي تقول : " أن لبنانيا واميركيا كانا يتمشيان في أحد الشوارع ، حين سأل اللبناني الاميركي : بماذا تتباهون في اميركا ؟، فقال : بوصولنا الى الفضاء الخارجي والقمر والمريخ والانترنت وبصناعاتنا وقوتنا وهلم جرا...
وهنا سأل الأميركي اللبناني : وانتم بماذا تفتخرون ؟
يجيب اللبناني : انظر هناك في الأفق البعيد حيث يوجد اوتوستراد معلق ، بلا اعمدة ولا قواعد ، وهو يعد معجزة حقيقية وقد كلف عشرات أن لم يكن مئات مليارات الدولارات .
يرد الأميركي : لكني لم ار شيئا ! يجيب اللبناني : تلكم هي المعجزة " .
عندنا في لبنان ، على مدى هذه الفترة صرفت مئات مليارات من العملة الخضراء على مشاريع وبنى تحتية ، لكن ها أن اللبنانيين يهللون لساعتي كهرباء ، حين يتوفر اعتمادات للفيول ، يقولون : أن الخزينة العامّة تكبّدت خسائر في الكهرباء بين عامي 1992 و2019 تتجاوز 50 مليار دولار، وأن هذه الخسائر مسؤولة عن أكثر من نصف الدين العام. لكن هل أنفقت الدولة اللبنانية فعلياً هذا المبلغ على الكهرباء؟.
الهدر في لبنان هو مزيج متفجّر من عوامل عدة: تدخّلات سياسية في عمل القضاء، تفعيل حصانات كضمانة للإفلات من العقاب، زبائنية في التوظيفات داخل الإدارات العامة، ومحاصصات طائفية. فالأخيرة أدّت، بحسب البنك الدولي، إلى تحميل الخزينة العامة كلفة هدر سنوي تخطت الـ5 مليارات دولار. لا بل أكثر. فلبنان، بحسب مؤشر مدركات الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية بنسخته الأخيرة، صُنّف في المرتبة 154 بين 180 دولة في العالم. كيف لا ومكافحة الفساد داخل مؤسسات الدولة وإداراتها كما ضمن سياساتها المالية والتوظيفية والصفقات بالتراضي أثر بعد عين؟ ذلك كلّه تُرجم تراكماً في الدين العام وفوائده، تهرّباً ضريبياً وتوظيفات عشوائية، هدراً متمادياً في ملفات الكهرباء والطاقة واستئجار المباني الحكومية وقطاع البنى التحتية والسدود ونهب الاملاك البحرية والنهرية والمشاعات والاراضي الاميرية وغيرها من لائحة تطول ولا تنتهي. ولعل فضيحة سرقة ودائع جنى عمر اللبنانيين في المصارف بالتواطؤ مع حاكم مصرف لبنان تشكل احد ابرز سرقات التاريخ منذ اكثر 250 عاما .
القاضية غادة عون مستمرة في مكافحتها للفساد ووجهت مؤخرا مذكّرة إلى 7 مصارف لبنانية رفع السرية المصرفية عن حسابات كبار العاملين، من حاليين وسابقين في القطاع المصرفي، لأن الهندسات المالية التي حصلت سابقاً بين عدد من المصارف وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، لا تخلو، من تبييض للأموال. لكن المفارقة هي ان البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي يتدخلان لدى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود لمنع القاضية غادة عون من استكمال تحقيقاتها بحق عصابة المصارف وأصحاب المصارف المتعثرة في لبنان.
البطريرك والرئيس يحتجان لأن القاضية غادة عون تطبّق قانون السرية المصرفية الذي يسمح للقضاة بالحصول على كشوفات حسابات أصحاب المصارف ومدرائها. لأن البنوك اللبنانية التي تُعتبر المعبد المقدس للطبقة الحاكمة في لبنان، ترفض الامتثال للقانون، وقررت أخذ اللبنانيين رهائن من خلال إضراب المصارف في لبنان،مما استنفر حُماتها الذين قرروا صرف النظر عن كون الأزمة في لبنان هي نتيجة أكبر انهيار اقتصادي ومالي ونقدي في العالم في التاريخ الحديث، بحسب البنك الدولي، كما صرفوا النظر عن كون المسؤول الأول عن انهيار المصارف اللبنانية هي عصابة جمعية مصارف لبنان نفسها وحاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة وشركاؤهم في المنظومة الحاكمة او الطبقة مهيمنة. وبدلاً من ذلك، قرروا مواجهة القاضية غادة عون التي تسعى إلى إحقاق جزء صغير من حق اللبنانيين.
البطريرك الراعي والرئيس نجيب ميقاتي مدعومان من وسائل إعلام فاسدة، تهاجم القاضية غادة عون وتحمّلها مسؤولية انهيار القطاع المصرفي اللبناني المنهار أصلاً، كتلفزيون المر لصاحبه ميشال غبريال المر المرتبط بالمنظومة المصرفية المهيمنة، والمدان من قبل القضاء بسرقة المال العام عبر فضيحة الاتصالات غير الشرعية. وإلى جانب المر يقف بيار الضاهر، المرشح من قبل بعض السياسيين لرئاسة الجمهورية، والمستفيد بعشرات ملايين الدولارات من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأصحاب المصارف اللبنانية المتعثرة .
رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود الذي دافع عن المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، لم يضع حداً لتدخلات البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ورئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي. فهل ان هذا الموقف لأن القاضية غادة عون ليست مدعومة من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية كما هي حال القاضي طارق البيطار. ولأجل ذلك، لن يدافع القاضي سهيل عبود عن القاضية غادة عون بالطريقة ذاتها التي دافع بها عن القاضي طارق البيطار؟ .
عودة الى التجربة الايطالية ، فمن المفارقات أنه بعد سنتين من هذه الحملة الشعواء على الفساد والمافيا، صعد نجم الفاسد الكبير سيلفيو برلسكوني ووصل إلى السلطة في إيطاليا، مما اعتبر أنه رد قاسي من جانب اخطبوط الفساد والمافيا المعشعش في كثير من المفاصل الإيطالية.. بيد أن برلسكوني الذي ظل في الحكم عدة سنوات لكنه في النهاية ادين بتهم عديدة بالفساد والابتزاز.. وحتى بالتحرش الجنسي.
بأي حال لم تقف المعركة أو المنازلة بين معسكري الفاسدين واللصوص، وقضاة الأيادي البيضاء، الذين تعرضوا لحملات شعواء من الترهيب والتهديد، حتى أن القاضي انطونيو دي بيترو نفسه شنت عليه حملات إعلامية مجنونة وظالمة لتشويه صورته ومكانته وسمعته وكلها كانت محاولات لهز مكانته وصورته امام الإيطاليين.. ووصل الأمر ببطانة الفساد وأتباعها إلى تنفيذ عمليات اغتيال، فكان اغتيال رفيق دي بيترو، في حملة مكافحة الفساد، القاضي جيوفياني فالكوني مع زوجته وحراسه والتي هزت المجتمع الإيطالي.
اخطبوط الفساد الإيطالي وسع من اتهاماته وحملاته بحق قضاة "الأيادي البيضاء"، وزعموا أن هؤلاء القضاة يعملون لمصالح سياسية وحسابات خاصة، في وقت سعى فيه "أمير الفساد" سيلفيو برلسكوني إلى تمرير قوانين لتخفيف المسؤولية والقيود القانونية عن الطبقة السياسية الفاسدة، خصوصاً فيما يتعلق بالشبهات المالية، كما حاول برلسكوني تمرير قانون عفو عام عن التمويل المشبوه والإثراء غير المشروع للأحزاب.. لكنه لم يمر.
وبالخلاصة، فإن دراسات اقتصادية صدرت قبل 8 سنوات أكدت أنه لو أن حملة قضاة "الأيادي البيضاء" التي لم تتوقف، أخذت كامل مداها، لكان الاقتصاد الإيطالي أكبر بعشرين مرة مما هو عليه.. القضاة الإيطاليون الشرفاء يواصلون حملتهم، ويكفي أن نشير أنه في العام 2016 وحده، تم اعتقال أكثر 900 شخصية ايطالية بتهم الفساد. . هل ستيقى القاضية غادة عون وحدها في المعركة ؟ سؤال برسم القضاة والمحامين الشرفاء وبرسم المجتمع اللبناني المنخور بجمعيات ما يسمى " المجتمع المدني " وال ( NGOZ ) ! القاضية غادة عون لا تشبه أيّ قاضٍ آخر.
حالةٌ فريدة يصعب أن تتكرر في القضاء اللبناني. فهي صادقة وشريفة وحالمة. نكتفي هنا برد للقاضية غادة عون على تويتر ردا على قراروزير الداخلية حيث قالت : "تدخل غير مسبوق في عمل القضاء،ومناصرة من قبل وزير الداخلية للفريق المدعى عليه على حساب الجهة المدعية .معقول وحضرته كان قاضي. .في نصف الشعب اللبناني حرم من جنى عمره ورزقه ومدخراته الا يعنيك ذلك؟؟كيف تسمح لنفسك بالتدخل في مسار الدعوى .هذا انهيار كلي للعدالة في هذا البلد المسكين".