سياسة واصا باشا ما تزال مستمرة 2/2 ـ أحمد زين الدين

الجمعة 17 شباط , 2023 01:26 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

نظام سياسي مولد للازمات والفساد والفتن

النظام السياسي في لبنان مولد ومنتج للأزمات، ففي التجارب السياسية، كان على الدوام هناك من يستقوي بالخارج ليعزز نفوذه ومكاسبه في الداخل، وكان هناك من يجيد توزيع الأدوار واللعب على الحبلين. آخر هموم الطبقة السياسية اللبنانية هي القضية الوطنية والقضية القومية، لأنه تهيمن على البلد طبقة رأسمالية طفيلية لا نعرف كيف بدأ وتكون رأسمالها؟ أكلت الأخضر واليابس ، يكفي أن نشير انه مع اول حكومة للمرحوم الرئيس عمر كرامي ( 1990 – 1992 ) ، كان الدين العام أقل من ملياري دولار ، فصار في ثلاث أو اربع سنوات من بدء عهد "الانماء والاعمار" أكثر من 15 مليار دولار ، وهو الآن يحلق فوق المئة مليار دولار .

حنان على اسرة الأسياد

منذ أن كان لبنان صغيراً ثم كبيراً كانت عمليات البيع والشراء عند السياسيين، الذين لم يتركوا أسلوبا أو وسيلة الا واستغلوها من أجل منافعهم الشخصية . ويقول الصحافي الراحل إسكندر رياشي: "هذا الفساد مستأصل منذ زمن بعيد، منذ عهد الأتراك، عندما كان بعض أهالي هذه البلاد يستعملون كل طرق الإرضاء والتملق لكسب عواطف أسيادهم العثمانيين وبدرجة حاذقة ووسيعة جداً، حتى لا نقول إنهم ألقوا دروساً على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء والاستثمار ."

يتابع: "خلال الحرب العالمية الأولى عندما حكم العثمانيون جبل لبنان مباشرة بعد أن ألغوا امتيازاته، رأينا هؤلاء الأتراك في جبل لبنان عن كثب يأتوننا في البداية رجالاً مستقيمين إنسانيين، وينقلبون بعد حين إلى وحوش كاسرة وفاسقين وسارقين وحرامية، وذلك عندما كنا نفتش عن كسب رضاهم بكل ما عندنا من حيل، وبكل ما عندنا من سبل وطرق للإغراء، ولا أريد أن أقول إن الكثيرات من الحسان كن في رأس أنواع ذلك الإغراء مما يجري في بلاد يدخلها القوي ويحكمها فاتحاً، ولكن ما بولغ فيه أثناء الحربين الكبيرتين، هو أن العدد الأكبر من مئات الحسان كن يصلن إلى أسرة الأسياد والحاكمين الأتراك، ومن بعدهم الفرنسيون والإنكليز والأسترالية عن طريق الحنان الأبوي ".

واصا باشا القرن 21

ويمكن القول أن سياسيي اليوم منذ " اتفاق الطائف " تفوقوا على المتصرف الرابع ، واصا باشا الذين عين متصرفا في 9 أيار 1882، وكان يتباهى بأنه سيكون مصلحا سياسيا ،وهو قام بعملين فقط ، يشهدان له بـ”الاصلاح” الأول بناء سراي بعبدا وجعله المركز الشتوي الدائم لدوائر المتصرفية، والثاني بناء مستشفى في بيت الدين . وقد اعتمد واصا باشا في إدارته لـ”المتصرفية” على ابنه في الشؤون القضائية، وعلى صهره كوبليان في الشؤون السياسية والإدارية ، وهذا يشير الى انه اعتمد على “العائلة” في إدارة متصرفية جبل لبنان .

وفي سنوات حكمه عمّت الفوضى، والرشوة، والفساد، مبررا ذلك بأنه ورثه من الذين كانوا قبله، ورده أيضا إلى التدخل الدولي في الشؤون الداخلية للمتصرفية.. والحقيقة أن فساده عائد الى حبه للمال مع ابنه وابنته وصهره كوبليان تحديدا،. ففي عهده بيعت المناصب لمن يدفع اكثر لصهره وزوجته (أي ابنة واصا باشا)، حيث كان "الصهر سند الضهر" فنانا في التحايل للوصول الى غاياته. ويروى هنا ان " الشيخ رشيد الخازن المشهور بنكاته حضر لزيارة كوبليان وطلب منه تعيين أحد الأعيان مديرا في قائممقاميته ، فطلب كوبليان مئتي ليرة ذهبية (شوفة خاطر) مقابل مساعدته في تحقيق هذا التعيين ، وإذ لم يتفقا نهض الشيخ رشيد مودعا ، وفيما كان يصافح كوبليان قال له الأخير : عرفت يا شيخ رشيد أن كاتب محكمتكم يرتشي . فأجاب رشيد بلهجته الخازنية : وايش كنا منعمل عندك يا أفندي .. فضحك كوباليان وسكت " ( لحد خاطر – نظام المتصرفية في لبنان – ص 148 ) .

ومن سيرة الفساد في عهد واصا باشا انه في انتخابات ناحية “البترون” خاضها بمرشح دفع أكثر من غيره ثمن ترشحه، في مواجهة مرشح البطريركية المارونية ، وحينما اعترض انصار مرشح البطريركية، أحالهم المتصرف بتحريض من صهره الى بعبدا حيث تم سجنهم بحجة الإخلال بالأمن .

بعد هذه المسيرة الحافلة بالفساد مات واصا باشا 29 حزيران 1892 فدفن في الحازمية، وهنا كان ل"المداحين " المنافقين حضورهم حيث "وقف أحدهم على قبره أمام جماهير غفيرة وفي مقدمتهم رجال الحكومتين اللبنانية والبيروتية ، منتحلا لنفسه الكلام باسم لبنان ، وأخذ يرص في تعظيم الخطب الى أن رفع عقيرته متمثلا بقول من قال : " إذا جمدت دموع لئيم قوم        فليس لدمع ذي شرف جمود "

فانتفض الجمهور كمن مسته الكهرباء ووقعت الأحتجاجات ، واستفهم والي بيروت عن السبب ، ففسروا له معنى بيت الشعر فدمدم بالتركية غاضبا : إذن أنا بلا شرف لأني لم ابك " ( لحد خاطر – عهد المتصرفية في لبنان – ص 149 ) . فكان أن رد الشاعر تامر الملاط بكلمة موجزة شديدة الوقع والتأثير : " إن ما سمعتم يا سادة ليس هو بلسان أهل لبنان ، بل بلسان المتكلم الشخصي ليس إلّا، أما لسان عموم اللبنانيين فأنه لا يتجاوز طلب الرحمة للفقيد ، وأنشد البيتين الآتيين : قالوا: قضى واصا وواروه الثرى          فأجبتهم وأنا العليم بذاته

رنوا الفوس فوق بلاط ضريحه      وأنا كفيل برد حياته "

فساد ونهب

كان واصا باشا وزبانيته وفساده في القرن التاسع عشر على مستوى المتصرفية ، اما ونحن في لبنان الكبير وفي بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين فكم من " الوصايات " ، وكم من الفساد وغيلانه ووحوشه الكاسرة التي انشبت مخالبها في الجسد اللبناني ولم تشبع بعد ، فعن ماذا نتحدث في حقول الفساد ونهب المال العام والخاص والملك العام والمشاعات ، وماذا عن صناديق الانماء والاعمار والمهجرين والجنوب والهيئات ؟

ماذا عن سرقة ونهب أموال المودعين في المصارف ، وهي فضيحة غير مسبوقة منذ 250 عاما ؟

ماذا عن مشاريع الكهرباء ، بحيث أن اللبنانيين الوحيدين من شعوب 190 دولة في العالم يهللون لساعتي كهرباء في اليوم ، وهي التي استنزفت عشرات المليارات من العملة الخضراء ، وماذا عن الشركات العقارية لاعمار وسط بيروت وترتيب المناطق الساحلية في المتنين الشمالي والجنوبي (سوليدير ، اليسار ، ولينور ) . كم هو "مظلوم الشعب اللبناني يكفي انه هاجر منه 3 ملايين ونصف مليون مواطن، يكفي ان المرضى لا يجدون مستشفى حكومياً بنصف مستوى المستشفيات الخاصة، يكفي ان الشبان والصبايا يتخرجون في الجامعات ولا يلقون فرص عمل، يكفي ان عشرات الاف الشبان والصبايا لم يستطيعوا الاستمرار في الدراسة لعدم امتلاك أهلهم مدخولا يجعلهم يدفع لهم مترتبات دراساتهم، يكفي ان 1700 مليار دولار بنت بها اليابان العاصمة طوكيو وجوارها بعد الحرب العالمية الثانية واصابتها بقنبلتين نوويتين ولبنان بهذه القيمة لم يسمح السياسيون الا بالسرقة لهم ونهب الدولة ونهب أموال الشعب اللبناني وبناء القصور والسيطرة على أراض وضم مشاعات لهم وكلهم اصبحوا من اثرياء العالم العربي ومن اهم اثرياء لبنان ولا يسكنون الا القصور والشعب خدم عندهم وسيطروا على الأملاك البحرية حيث طول الشاطئ اللبناني 230 كلم برسوم بلغت 650 مليون دولار فقط ومنعوا الناس من ارتياد البحر مجانا بل الدفع بقيمة عالية وقدرت لجنة الخبراء دراسة الأملاك البحرية بأن الرسوم البحرية يجب ان تكون سنويا 27 مليار دولار نظرا لطول الشاطئ اللبناني 230 كلم " ( الديار – 12 كانون الأول 2019 ) .

مغامرون بدماء الناس

هؤلأ السياسيون مستعدون للتضحية بالمواطنين ( الغلابة ) من أجل شهوتهم بالسلطة، فحينما أطلقت 14 آذار عام 2006 "حملة فل" ضد رئيس الجمهورية السابق إميل لحود، وإطلاق التهديدات بالزحف لاحتلال القصر الجمهوري، مما اضطر الرئيس لحود لأن يبلغ من يعنيهم الأمر انه" لن يسمح لكائن من كان أن يصل الى القصر، وسأعود قائدا للجيش وأقود الدبابة بنفسي"، وفي اطار التصدي لهذه الحملة ووقف التهور والغطرسة، ابلغ موقفه، بواسطة العميد جورج خوري الى البطريرك الماروني والى قائد الجيش في حينه، وبعدها بنحو أسبوع علم الرئيس لحود أن مسؤولا سياسيا كبيراً، يعتبر نفسه مؤهلا لرئاسة الجمهورية، وهو كان وزيرا سابقا ونائبا، التقى مع مسؤول فرنسي منتدب من قبل الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، فتسأل الشخصية اللبنانية المسؤول الفرنسي: لماذا لم تشجعوا وتدفعوا لاقتحام القصر الجمهوري؟

يرد المسؤول الفرنسي: إميل لحود معروف بتصلبه وتمسكه بمواقفه وعناده، وفي محاولة الاقتحام ستحصل مواجهات ويسيل الدم. هنا يرد الوزير اللبناني السابق: هذا هو المطلوب، يقتل ألف شخص، فيكون الأمر جيداً، فيصير وضعه كوضع صدام حسن، وتعلق له المشنقة.

فتأملوا هذه العقلية التي تتحكم بكثير من السياسيين اللبنانيين " .

نظام " مكربجة " الياته

رغم هذا الواقع المرير ، فان اليات النظام السياسي أدت خدماتها ، وباتت بحاجة الى نفضة شاملة لا تنتج الا أزمات وزارية وفراغ رئاسي ودستوري وهذه بعض الحقائق :

409 أيام مضت بعد نهاية عهد أمين الجميل في 23 أيلول 1988 في فراغ رئاسي.

183 يوما بعد نهاية عهد الرئيس إميل لحود في 24 تشرين الثاني 2007.

888 يوما من الشغور الرئاسي بعد نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار 2014.

59 يوما والعدّاد سيستمر في تصاعده في إحصاء الشغور الرئاسي بعد نهاية عهد الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول 2022. ويكون عدد أيام الشغور الرئاسي التي عرفها لبنان حتى اليوم 1539 يوما أي نحو أربع سنوات و79 يوما، والعدّاد طبعا يستمر في تصاعده مع العام 2023.

أما ما ضاع على لبنان «السياسي» في تشكيل الحكومات أو في تصريف الأعمال فهو على النحو الآتي:

– عهد الرئيس إلياس الهراوي (1989-1998): استغرق تشكيل خمس حكومات 48 يوما فقط.

– عهد الرئيس إميل لحود (1998-2007): استغرق تشكيل ست حكومات 41 يوما فقط.

– عهد الرئيس ميشال سليمان (2008-2014): استغرق تشكيل أربع حكومات نحو 720 يوما أي نحو ثلث ولاية العهد.

– عهد الرئيس ميشال عون (2016-2022): استغرق تشكيل 4 حكومات إضافة الى اعتذارين عن التشكيل لكل من الرئيس سعد الحريري والسفير مصطفى أديب 739 يوما يضاف إليها نحو شهر بعد استقالة حكومة الحريري الثانية في عهد عون مضى في طرح أسماء لرئاسة الحكومة ليرسي الأمر بعدها على الرئيس حسان دياب.

كما يضاف الى ذلك، تكليف الرئيس ميقاتي بعد الانتخابات النيابية الأخيرة بتشكيل الحكومة الجديدة في 23 حزيران الماضي والتي لم تبصر النور. لقد شهد العهد الرئاسي للرئيس عون أمراً غير مسبوق لم تشهده جميع العهود الرئاسية الــ 12 التي عرفها لبنان منذ الاستقلال في العام 1943، وهي أن نحو نصف أيامه مضت في تشكيل حكومات ووجود حكومات تصريف الأعمال. ويقدر عدد الأيام التي مضت في تشكيل الحكومات بعد الطائف بأكثر من 1750 يوما أي نحو أربع سنوات و290 يوما.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل