أقلام الثبات
"الظلال والبريق"، تحت هذا العنوان، نشر الكاتب الصحافي العربي الراحل محمد حسنين هيكل، مقالة له في بداية سبعينيات القرن الماضي، أشار فيها إلى أسلوب الإعلام الأميركي في غسل عقول متابعيه؛ وتحكمه بها وجعلها أسيرة خياراته. لكن بدلآ من أن تكون تلك الإشارة السباقة، دافعاً لنا للتنبه إلى ما نواجهه كشعوب وأفراد لبنانيين وعرب، نخوض غمار تحديات هائلة، إختار البعض أن يكون أداة وبوقاً لذلك التشويه الأميركي المتعمد؛ ونسخة عنه، متجاهلاً أن النسخة مهما كانت جودتها، هي اقل جودة من المنسوخ.
ومن أخطر ما نواجهه في هذه الأيام هو التقليد الأعمى لما هو مشوًّه بالأصل، مما هو سائد في هذا الزمن المتقلب،تحت حجة سخيفة بأن "كل شي فرنجي برنجي"، إذ أصبح معتاداً أن يقوم الأفراد والشعوب المغلوبة على أمرها بتقليد غالبها، إن كان حاكماً أو سلطة، أو دولة مستعمرة، لكن الأخطر في هذا الجانب، هو تقليد وسائل الإعلام المحلية لإعلام أميركي هجين، لا قيم ولا ضوابط له، له سوى التضليل والتحكم في عقول الناس وخياراتها، لتقرير ردات فعلها، لتكون على الطريقة الأميركية، في خدمة "لوبيات" معينة وقوى التسلط الظاهرة والخفية. وهذا حال بعض الإعلام "اللبناني" الممول من الخارج والعامل لصالح هذا الخارج بقوة واندفاع. ويحمل التقليد الأعمى والفوضويّ في ظاهره، نسخ الموضة ومسايرة المدنية وادعاء مواكبة الحداثة وتقديم الصرعات الجاذبة، لكن في الإعلام هو وظيفة مدفوعة الثمن، لها غايات تتعدى المعلن لتطال مصير بلدان وشعوب بكاملها.
ومشكلة مقلدي وسائل الإعلام الأميركية، أنهم يجهلون أو يتغافلون عن أن المجتمع الأميركي هو مجتمع مهاجرين، أقيم على أنقاض الشعوب الأميركية الأصلية، بعد أن جرت إبادتها بالفعل، لذلك على كل من يلتحق بهذا المجتمع الأميركي الهجين، أن يتخلى بدرجة كبيرة، عن ثقافته وتقاليده ولغته؛ ويتقمص شخصية الأميركي المهاجر، حتى يتقبله المجتمع الجديد الذي التحق به؛ وحتى يتسنى له الإندماج في دورة حياته الإنتاجية والتفاعلية، بما تعنيه من تعلم لغة جديدة وعادات مختلفة، بل قد يصل الأمر لدى البعض إلى تغيير دينه أو طائفته، بما يسهل عليه الوصول إلى مواقع بارزة يطمح إليها. وهنا يأتي دور الأعلام ليصنع شخصية ذلك الكائن الجديد، الساعي لكسب رضى وموافقة أولياء القوة والنفوذ على التحاقه بهم.
واذا كان الأصل مشوه بالأساس، بعد أن بنيت منظومته الفكرية على القتل والإبادة والإستيلاء على حقوق الغير بالقوة، فكيف يكون نسخه وتقليده. هذا حال بعض الإعلام اللبناني، الذي يظن أنه يقولب عقول متابعيه ويؤثر فيها، خدمة لمشاريع خارجية يعمل في خدمتها، في حين أنه في حقيقة الأمر، يدمر منظومة قيم كاملة؛ ويدفع مجتمعه إلى مجهول، لم يصل الآخرون إلى مستقر فيه، بل يعانون من سقوط القيم وتفكك الأسر وتحكم قوى خفية مالية وسياسية بهم، إلى حد بيعهم وشرائهم كالقطعان، ف"لا ياتي من الغرب ما يسر القلب" كما كان يقال. ويتناسى هذا الإعلام التبعي، أنه ينتمي إلى مجتمع وحضارة راسخة، تحتاج إلى ترشيد وليس تدمير، لأنها لا تفتقر إلى القيم الروحية وترتكز إلى الأديان السماوية. وأن معظم ما يعانيه هذا المجتمع وأهله، آت من تدخلات الغرب وجشعه ومؤامؤاته.
ويسهل لتلك الأبواق وظيفتها، أن معظم القوى السياسية في لبنان، تدور بشكل أو بآخر في الفلك الأميركي، أو تخشى غضبه عليها. وهي تقبل إملاءاته صاغرة، إذ مضى ذلك الزمان الذي كانت شوارع بيروت تغص فيه بالمحتجين على السياسات الأميركية، أو على دخول بارجة حربية أميركية إلى مرفأ بيروت. وبات الوجود الأميركي العسكري في لبنان أمراً مألوفاً ومنتشراً؛ والتدخلات السياسية الأميركية هي من اليوميات، تحت حجج وزرائع تجارية ونفعية. والحقيقة أن الأميركي هو الحاكم الفعلي في لبنان. واللبنانيون يعرفون مدى قوة ونفوذ سفيرات أميركا على السياسيين والروحيين اللبنانيين؛ وعلى المدنيين والعسكريين، مسلمين ومسيحيين، حتى بتنا أمام إفلاس أخلاقي تضج به وسائل الإعلام وتلهج به السنة السياسيين وخطابات رجال الدين، ممن يزحف يوميا لنيل رضى السفيرة الأميركية.
يخوض بعض الإعلام في لبنان معركة أميركا لفرض إملاءاتها، في الحاق لبنان بطابور المطبعين مع العدو "الإسرائيلي". وفي السيطرة على كل مصادر الثروة والمال في البلاد، حتى يكون القرار بأيديهم بالكامل. ويريدون التخلص من كل فكر وعمل مقاوم. وآخر مساعيهم، بعد أن أنجزوا معظم بنود مخططهم، هو بيع أملاك الدولة ليصبح لبنان رهينة، أكثر مما هو الآن. فهل يتنبه اللبنانيون، أم يتم تمرير آخر بنود مخطط التطويع الإقتصادي أمام أعينهم، وسط تطبيل إعلامي مضلل ومتآمر.