الثبات - رد الشبهات
الرد على شبهة
مخالفة المذاهب الفقهية للمنهج النبوي
إنّ المذاهب الإسلاميّة هي مناهج في فهم نصوص الكتاب والسنة، "وكلهم من رسول الله ملتمس"، والبحث في أقوال المذاهب ومقارنة بعضها ببعض، هو دأب العلماء المختصين منذ أمد بعيد، وكل باحث يترجح له قول يعمل به ويفتي به غيره، ولا غضاضة على الإسلام في تعدد المذاهب، بل هو علامة على حرية الفكر، وسعة الأفق لدى علماء المسلمين، أما التنازع بين أتباع المذاهب فليس من خُلق السلف الصالح.
فالمذاهب الأربعة المشهورة هي محصلة آراء واجتهادات الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء الأئمة من أعلام أهل السنة والجماعة، ووجودهم امتداد لما كان عليه الصحابة من الاجتهاد في العلم والتدريس له. وقد كان بين الصحابة مجتهدون وعلماء، وكان بينهم من الخلاف في مسائل الاجتهاد كما بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
وقد كان في عصر هؤلاء الأئمة فقهاء ومجتهدون لا يقلون منزلة عنهم: كالليث والأوزاعي وسفيان، وغيرهم، ولكن الله تعالى كتب الانتشار والبقاء لمذاهب هؤلاء الأربعة بما هيأه - سبحانه- من وجود التلاميذ الذين دونوا مسائلهم، وسجلوا آراءهم.
وينبغي التنبيه لأمور مهمة يحصل من الجهل بها إشكال:
1-عدم حصر مصادر الأحكام الشرعية في القرآن الكريم فقط فمن المسائل ما هو ثابت من حديث صحيح في السنة النبوية، ككثير من الأحكام التي أجملها القرآن ووضع لها المبادئ العامة ثم بينتها وفصلتها السنة النبوية المشرفة، ومن مصادر الأحكام ليست مقتصرة على القرآن بل هناك سنة وقياس وإجماع وأقوال للصحابة وعمل أهل المدينة وغيرها من الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها بين المجتهدين.
2-أن طرق دلالات القرآن الكريم -الذي نزل باللغة العربية -على الحلال والحرام والأحكام الشرعية قد تختلف وتتعدد تبعا لاختلاف أساليب اللغة، فمنها ما يكون قطعياً لا شك في دلالته على المراد، ومنها ما يكون ظنياً أي له معنى قوي وراجح على غيره من المعاني لكن يبقى هناك احتمال لإرادة المعنى الآخر، وهو المسمى بالظاهر في اصطلاح علماء الأصول، وقد يرتقي هذا الظني إلى رتبة القطعي عندما يجمع عليه الفقهاء؛ فإن إجماعهم يقوي الظنّ فلا يصير هناك إمكان لاحتمال خلاف ما أجمعوا.
والحكمة في اشتمال نصوص الوحي على القطعي والظني، واشتمالها على أساليب متعددة وطرق مختلفة للدلالة على الحكم الشرعي أن يُفتح المجال للاجتهاد حتى يرفع اللهُ قدرَ الذين أوتوا العلم وسعوا في معرفة مراد الله بالسعي والبذل والتحصيل فيتفاوت الناس في الآخرة وتتمايز درجاتهم، وأيضا حتى يكون هناك مجال للاختلاف بين الفقهاء والمجتهدين، فتعدد الأحكام بما يسمح بوجود السّعة للمكلفين ولأولياء الأمور فيختاروا منها ما يناسب أحوالهم وعصرهم وما يلائم أحوال الناس، فتبقى أحكام الشريعة سارية صالحة ومصلحة لحال الناس على مر العصور.
فنصوص الوحي من قرآن وسنة ليست نصوصا جامدة، وعبارات منمطة كالبنود المصاغة في اللوائح والقوانين المعاصرة، ولبعد الناس في عصرنا عن روح اللغة العربية ومعرفة أساليبها وتعدد دلالاتها وعن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم كما كان للصدر الأول من الصحابة بما بيّن لهم معاني الوحي ومقاصده –ظنّ كثير من المثقفين في عصرنا أن أحكام الشرع ومراد الحق سبحانه من خلقه لابد أن تأتي بما يناسب ثقافتهم ومقدار معرفتهم باللغة، مع التغاضي عن كافة الأدوات والآلات التي ينبغي للمسلم أن يحصلها من علوم ومعارف شرعية ولغوية حتى يكون مؤهلا للاستنباط ومعرفة الأحكام الشرعية، فصرنا نرى بعض الناس يظن أنه لن يتعبد الله بتكليف أو عبادة إلا إذا قرأ آية أو حديثا حصل له معه القطع والجزم في نفسه بأن الله أراد منه هذا، حتى لو كان هذا الجزم مجرد وهم أو جهل مركب نتيجة لقلة العلم، مع طرح وإهمال كل نص ظني الدلالة على الأحكام الشرعية وكأن الله لم يخاطبنا إلا بالقطعي، وهذا هدم للفقه كله أو أغلبه؛ إذ الأحكام الفقهية كما يقول المجتهدون مبناها على الظنون.