أقلام الثبات
من يزو بلدا أوروبيا اليوم، ويقارن بما كان عليه الوضع قبل 4 سنوات, يسارع إلى الاستنتاج بأن اختلافاً جوهرياً حصل فعلاً، اكان في العلاقات الاجتماعية, أو على مستوى الآمال بأن الغد أفضل، مضافاً إلى ذلك الوضع الاقتصادي – المعيشي, حيث تتآكل الأجور التي كانت تؤمن مستويات مختلفة من الرفاهية.
الملفت بأن الناس تعمد إلى طمأنة نفسها بنفسها, بحيث يقارن كل واحد مستوى المعيشة مع بلدان أوروبية أخرى داخل الاتحاد الجامع من حيث توحيد العملة أولا, والانفتاح الجغرافي, والمواصفات الضرورية للسلع على اختلاف أنواعها, لكن المقلق الجامع هو الخوف من انهيار النظام الصحي الذي بدأت ملامحه ترتسم في افق بعض الدول التي كانت تعتبر سباقة الى حد كبير ,من حيث كفاءة الإنتاج والنوعية للكثير من الادوية العلاجية.
ففي فرنسا تظاهروا احتجاجاً أطباء القطاع الخاص في شوارع العاصمة باريس مطالبين الحكومة بالحوار وباتخاذ تدابير جادة تجاه مطالبهم العادلة في معالجة مسألة الأجور، ولسوف يمضون في إضرابهم عن العمل المتفاقم منذ أكثر من أسبوعين إلى أن تستجيب الحكومة لمطالبهم، ومن أبرزها: تحسين ظروف عملهم، ومضاعفة رسوم فحص المرضى. بينما الحكومة تصم آذانها, لا بل دانت عبر وزير الصحة الفرنسي فرانسوا براون، إضراب الأطباء لأنه جاء في "وقت صعب للغاية"، حيث تكافح فرنسا مع زيادة في حالات الإنفلونزا وفيروس كورونا.
لم يقتصر الحراك الشعبي على القطاع الطبي وحده, فقد نظم أنصار حركة "السترات الصفراء مظاهرة احتجاجية ضد التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة, وكذلك لرفض استخدام الحكومة المادة 49.3 المتعلقة بإصلاح قانون العمل.
لقد اصطدم المحتجون بالقوى المولجة بالأمن من قوات الشرطة والدرك, مع صراخ مدوي: "الوضع في فرنسا صعب للغاية على الفقراء.. إنهم محرومون من العلاج وفواتير الكهرباء والغذاء الجيد..، هناك مجموعة من المستغلين يأخذون كل شيء والدولة تحميهم".
بمعنى آخر أن الفساد متمدد, ويأخذ راحته مقابل ازدياد الفقر وغياب المعالجات الرسمية الجادة، فيما السلطات كما في بريطانيا اللدودة تبحث عن انتزاع قوانين تقيد التحركات الشعبية والنقابية, في صراع جديد عنوانه: "تقليص الديمقراطية وحرية التعبير"، وهو أمر يجري تعميمه, في دول الاتحاد الأوروبي كما في سيدته الولايات المتحدة, والذين جميعاً عملوا على تدمير الدول النامية ولا سيما الدول العربية من أجل فرض مفاهيمهم في "الديمقراطية والحريات" بأنهار من الدم , ودمار يحتاج عشرات السنين لإعادة بنائه.
ليس الحال في بريطانيا أفضل منه في فرنسا, فالاضطرابات والتظاهرات صارت سلوكاً شعبياً, ولم يفد تغيير الحكومات والانتخابات الحزبية والتشريعية لامتصاص وجع الناس وتهدئة خواطرهم بوعود يدرك أصحابها أنها غير قابلة للحياة, ليس فقط بسبب النهج الاقتصادي المتبع, وهو قد أصبح بالياً، وإنما أيضاً في الأداء السياسي الكيدي كما تريده واشنطن على المستوى العالمي, وحيث توجد المواد الخام من الأكل إلى كل الصناعات التي باتت ضرورية في الحياة الأوروبية, والأهم سلعتا الغاز والنفط.
لقد استؤنفت إضرابات وسائل النقل في بريطانيا، بعدما أحدثت اضطرابات في الحركة خلال فترة الأعياد. وشهدت شبكة السكك الحديدية في إنجلترا واسكتلندا وويلز توقفاً شبه تام نتيجة إضراب نقابة سائقي القطارات الذي يتزامن مع إضراب 40 ألفاً من العاملين في مهام أخرى في السكك الحديدية. في وقت تعتزم الحكومة البريطانية طرح قوانين لتقييد قدرة النقابات على الإضراب في مجالات حيوية، بينها الصحة والتعليم والنقل. وتفرض القوانين المقترحة حدا أدنى للخدمة يجب ضمانه من قبل المضربين أثناء الإضراب، كما تمنح أصحاب الأعمال حق مقاضاة النقابات المضربة وفصل العمال المضربين في بعض الحالات.
لقد سارع كتبة السلطات الى وصف المحتجين في البلاد الأوروبية، التي لم تتمكن من انتاج علاج يقتدى في عاصفة كورونا المستمرة بهجماتها بأن المحتجين "بلطجية، وفوضويون، وعنصريون ومتطرفون,الخ" من الأوصاف الذامة بهدف تطويق توسع الحركات التي تعبر عن غالبية السكان في هذا البلد او ذاك, ولعل التعبير الذي يردده الأوروبيون أمام من يشكون همهم أمامه, بأن الشعوب قد جنت, وتمت قولبتها من الإعلام السائد, وفق منهجية واضحة, ولكن يبقى هناك من يبحث عن الحقائق مقابل زرع أوهام على أنها الحقيقة وحدها, مثلما تعمد السلطات الى تبرير العقوبات على روسيا التي طالما جاهرت بالود تجاه أوروبا, ووقفت الى جانبها في الازمات الصاعقة مثل كارثة "كورونا".
المعاناة الأقسى للأوروبيين التي تخيم عليهم النقص في امدادات الطاقة التي كانت روسيا المصدر الأساسي لها إلى جانب المخاوف الكبرى من تزايد النفص في الادوية, وهذا الأخير ينسحب على كل البلدان الأوروبية, ويعتبرون ان أسباب المشكلة تضعضع سلاسل الإمداد المرتبطة بإجراءات الإغلاق لمكافحة فيروس كورونا (كوفيد-19) في الصين والحرب في اوكرانيا. وأعلنت جمعية الصيادلة في سويسرا إن البلاد التي تعد أفضل دولة في العالم من حيث جودة الحياة في عام 2022 وفقا لمؤشر نومبيو. تعاني من نقص في الادوية: "أكبر مشكلة نواجهها مع أدوية الأطفال، وخاصة أدوية خفض الحرارة". و"هناك أيضا نقص في أدوية ضغط الدم والأمراض النفسية والشلل الرعاش (مرض باركنسون)".
أما ألمانيا, فتواجه نقصا في أدوية أساسية مثل مضادات الحمى. ويمثل هذا الأمر مشكلة، لاسيما مع إصابات كورونا الجديدة التي يواكبها ارتفاع درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية، والغريب أن دواء الباراسيتامول "أصبح نادرا بعض الشيء مع بداية العام. وفي غضون ذلك، وقد نفذ مخزون شراب الإيبوبروفين وكذلك بخاخات الأنف والأدوية المضادة للحمى". ولا يوجد انفراج في الأفق. لا يتردد الناس في أي بلد أوروبي حيث تموضعت البروقراطية من جديد في مفاصل الدول من تحميل السلطات مسؤولية الازمات المتصاعدة، رغم الالتزام الحديدي بالقوانين, وخيبة الأمل المغلفة بالمرارة.