الثبات - التصوف
أعلام التصوف
الشيخ حسن حبنكة الميداني
هو الشيخ حسن بن مرزوق بن عرابي بن غُنيم، ولَقب عائلته (حبنَّكة)، وشهرته (الميداني) نسبةً إلى حيّ الميدان الذي يسكنه في دمشق.
ولد الشيخ حسن في حي الميدان في دمشق سنة 1326هـ/1908م، وهو حي الشجعان وأهل المروءة والفتوّة وأولي القوة، وأبوه هو مرزوق بن عرابي بن غنيم من عرب بني خالد من بادية حماة، أما حَبَنّكة والميداني فهما لقبان له عرفت عائلته باللقب الأول واشتهر هو باللقب الآخر، وكان أبوه مرزوق من أهل الصلاح والاستقامة، صاحب محل لبيع المواد الغذائية، وأمه خديجة من أصول مصرية أتت لأبيه بأربعة أبناء وبنتين، أكبرهم هو الشيخ حسن يرحمه الله، وقد توفيت - يرحمها الله تعالى - أثناء عودتها من الحج مع ابنها الشيخ حسن.
رحلة الشيخ العلمية
كان الشيخ حسن متوقّد الذكاء منذ طفولته، طموحاً، محباً للعلم والفضيلة والمجد، فتعلَّم في الكُتّاب القراءة والكتابة والقرآن، ثم أنهى المرحلة الابتدائية في مدرسة الشيخ اليعقوبي، إلا أنه لم يقنع بهذا القَدْر من التعلّم، فلازم الشيخ (طالب هيكل) ثم الشيخ (عبد القادر الأشهب).
وسمع بكبار العلماء في دمشق الشام، فبدأ يتصل بهم واحداً فواحداً، ويتتلمذ على من يجد عنده حلقة تعليم، أو يجد لديه استعداداً لإفراده بحلقة خاصة.
وكان الشيخ حسن المتفرغ لطلب العلم والاتصال بالعلماء للأخذ عنهم فتًى في أوج همته واجتهاده وطموحه، عِلماً وتعبّداً، وشدّة على نفسه وعلى من يستطيع أن يفرض عليه إرادته، فكان يسهر الليل في طلب العلم، وفي صلاة جوف الليل، ويُلزم أحياناً زوجته الصغيرة غير المتعلمة أن تسهر معه في العبادة طاوية فراشها، وإذا غلبها النوم من أول الليل أيقظها من ثلث الليل الأخير، فتصلي قيام الليل حتى طلوع الفجر.
التعلّم والتعليم معاً: واتجهت همّته للأخذ والعطاء في آن واحد، معلماً ومتعلّماً، فجمع حوله عدداً من شُبَّان الحي يعلمهم علوم العربية والفقه وغير ذلك من العلوم الإسلامية، دون أن ينقطع عن متابعة كبار العلماء للتلقي عنهم.
من أبرز الشيوخ الذين أخذ عنهم:
1- الشيخ محمود العطار (فقيه حنفي وعالم متمكِّن).
2- الشيخ محمد بدر الدين الحسني، تتلمذ عليه ونال عنده حظوة وعناية خاصة حتى وفاة الشيخ بدر الدين رحمه الله.
3- الشيخ علي الدقر (انتمى إليه، ومنحه ولاءه، وتتلمذ عليه).
محنة الشيخ حسن حبنكة
وفي سنة 1386هـ/1966م حج الشيخ، وقابل الملك فيصل - يرحمهما الله تعالى - في لقاء خاص، ولما عاد أعد له الشعب استقبالا جليلا جدًّا في المطار وفي جامعه وَحيَّه بالميدان، وغاظ هذا نور الدين الأتاسي، بل إن السوفييت حذروا السوريين من هذا الشيخ الذي استقبل مثل هذا الاستقبال، فعزمت الحكومة على الإيقاع به؛ فأوعزت إلى أحد الملاحدة المجرمين أن يكتب مقالا مسمومًا يستهزئ فيه بالله - تعالى عَزّ وجَلّ - في مجلة الجيش الرسمية، فإذا قام الشيخ لينكر ويثير الشعب كعادته دُس بين صفوف المتظاهرين عناصر المباحث ليفسدوا المظاهرة ويحيدوا بها عن أهدافها، وحذر جماعة من المشايخ الشيخ حسن من الخطبة في جامعه في يوم جمعة خصه الشيخ للحديث عن الموضوع، لكنه خطب لمدة ساعة خطبة هائلة تجاوب معه فيها المصلون، ومنع هو وطلابه العناصر المدسوسة من التظاهر ضد الحكومة حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه، وعُذب بالسهر المتواصل وتسليط الأضواء الشديدة عليه، وأرادوا قتله لكن الله تعالى نجاه بالنكبـة التي نُكبت فيها بلاد الشام في حرب سنة 1387هـ/1967م، وقررت القيادة إطلاق سراحه، فطلب إطلاق سراح المسجونين بسبب قضيته وهم ألوف فوافقت القيادة وأطلقت الجميع، لكن كانت السلطة قد أصدرت مراسيم بإلغاء جمعيته بعد سجنه وصادرت أملاكها.
شعر الشيخ حسن حبنكة
كان للشيخ شعر جيد على أنه لم يكن مكثرًا، فمن شعره:
بني ديني هلمـوا أنقـذونا فنار الكفر تلتـهم البنينا
وأنتم عاكفون على فسوق فكم نشقى وأنتم نائمـونا
فتنـتم بالذي يفنى سريعًا وأغراكم خـداع الكافرينا
فعن نهج السداد صرفتمونا ومن ثدي الجحود غذوتمونا
وقال أيضاً:
صفق القلب للحجـاز وثارا شَفّه الشوق للحبـيب فطارا
واقتفت أثره الجسـوم غرامًا فجرى الركب في الرمال وسارا
يا ديار الحبيـب يا أُنس قلبي عدل الدهر في الهـوى أو جارا
يا بقاع الأنوار من فيض ربي حدثيـني عن الرسـول جِهارا
حدثيني عن زمزم والمُصَـلّى حدثيـني فلا أطيـق اصـطبارا
طلاب الشيخ حسن حبنكة
تتلمذ على يديه مئات من طلاب العلم، وصار بعضهم من العلماء الكبار والمشهورين مثل:
د. محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله.
د. مصطفى الخن.
د. مصطفى البُغا.
شيخ قراء الشام حسين خطاب.
شيخ قراء الشام من بعده محمد كريّم راجح.
ابنه الشيخ عبدالرحمن حبنكة.
وفاة الشيخ رحمه الله تعالى
توفي يرحمه الله تعالى سنة 1398هـ/1978م، عقب مرض نـزل به، وجَلَطات قلبية انتابته قبل وفاته بثلاث سنوات إلى أن حانت منيته، ووافاه أجله، وصُلي عليه في جامع بني أمية، وشيع جنازته قرابة ستمائة ألف، وهذا لم يكن في دمشق لأحد من العلماء منذ عقود طويلة، رحمه الله تعالى وأعلى درجته في عليين.
قال تلميذه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى:
"لا أعرف في حياتي يومأ سالت فيه شوارع دمشق، وأزقتها وميادينها، بأمواج متلاطمة من الناس، كالذي حدث يوم الاثنين الواقع في 15 ذي القعدة سنة 1398، يوم شيع شيخنا العلامة المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني إلى مثواه الأخير.
في ذلك اليوم، توقفت حركة دمشق أو كادت، وهجر الناس أعمالهم، وترك معظم الطلاب دروسهم، وعافوا مدارسهم وجامعاتهم، وسار الكل مشيا ً على الأقدام، في خطى وئيدة، وسط زحام شديد، من دار شيخنا الفقيد رحمه الله في أواسط حيّ الميدان، إلى مسجد بني أمية الكبير، ثم من مسجد بني أمية إلى مثواه الأخير بجوار مسجد الحسن في حي الميدان (مسافة لا تقل عن 8 كيلو متر )!....
لم يكن ذلك اليوم العجيب زمناً مرّ وانقضى، ولكنه كان في الحقيقة سجلاً ثبت واستقر.
سجل ٍّ ارتسمت عليه صورة أمينة ودقيقة لمدى محبة أهل الشام لعالمها الجليل الذي ارتحل..
محبة صادقة نبعت من القلوب، ولم تُلصق إلصاقاً بالمظاهر والوجوه، فما قادهم إلى توديعه بالسير في ذلك الدرب الطويل شيء غير تلك المحبة التي لم تكن ثمرة لأيّ رغبة مما قد تميل إليه النفس البشرية من أمور الدنيا وأسبابها، وإنما هي سرّ رباني ينطوي على أكبر الآيات الدالة على ما لهذا الدين من سلطان على القلوب".