أقلام الثبات
تتزاحم مشاريع تخريب لبنان وبث الفتن فيه والوقيعة بين مواطنيه. وتتكامل خطوات أكثر من جهة، في تهيئة الأرضية لفرض خيارات تصادمية وغير مقبولة من معظم اللبنانيين، توتر الأجواء وتزيد القلق، الذي أججته حرب الدولار الداخلية والخارجية على اللبنانيين، فاقضت مضاجعهم وأفقرت أغلبهم وجعلت مستقبلهم غامضاً، يسابقونه بهجرة شبابهم إلى الخارج، بحثاً عن مصدر رزق ولقمة عيش وأمن وأمان، باتوا مفقودين في لبنان.
وتتحرك أدوات الفتنة في كل إتجاه، بعدما بات اللعب بحاضر اللبنانيين ومستقبلهم على المكشوف، فترى هذا السفير أو تلك السفيرة يتعاطون في كل الشؤون الداخلية اللبنانية؛ ويدلون بآرائهم وكأنهم هم صاحب القرار والمعني الأول بهذا الشأن. وآخر إبداعات تدخل الخارج في الشأن الداخلي اللبناني، هو تصريح السفير السعودي وليد البخاري من على صرح مرجعية طائفية، حدد فيه مواصفات رئيس الجمهورية الذي تقبل به المملكة السعودية. وسط صمت مطبق وخرس لألسنة مدعي "السيادة والحرية والإستقلال".
وحسب وسائل الإعلام المقربة من تلك المرجعية، فإن مضمون اللقاء مع البخاري، كان سياسياً رئاسياً بامتياز، أكدت فيه تلك المرجعية تمسكها بدعوتها لحياد لبنان وعدم إدخال لبنان في سياسة المحاور؛ وأن تساعد المملكة وبقية الدول العربية لبنان في المحافل الدولية، لعقد المؤتمر الدولي الذي تدعو إليه تلك المرجعية. فهل مثل هذا اللقاء وتلك المواقف ليست سياسة محاور؟
من جهته، شدد السفير السعودي بعد اللقاء (على انتخاب رئيس لا ينتمي إلى «المحور المعادي» للدول العربية). و"ركز على تأليف حكومة بعد الإنتخاب، تكون هي أيضاً متوازنة وتعيد إلى البلد التوازن الذي سقط خلال العهد السابق". وأكد البخاري "بأن المملكة تقوم بكل ما تستطيع لتسريع إنتخاب الرئيس؛ وهي تنسّق مع الدول الصديقة وعلى رأسها فرنسا". فهل هكذا يكون الحياد، أم هذه هي التبعية بعينها وسياسة المحاور، التي تعمل السعودية ومن يتموّل من "مكرماتها" على فرضها على اللبنانيين؟
وآخر ما كان ينتظره اللبنانيون، أن تخرج عليهم دعوات بتدويل قضاياهم وتسليم قرارهم إلى جهات دولية، لم تضع أيديها على بلد إلا وخربته وأحالته يباساً، إن بالفتن التي تنشرها بين أبنائه، أو بالنهب الذي تمارسه بحق ثرواته، إضافة إلى النهب الذي يكون قد مارسه زبانية تلك القوى الدولية، الذين سبق ان نصبتهم تلك القوى على شعوبهم وحمتهم من غضبها، كلما إستفاقت تلك الشعوب على فسادهم وتبعيتهم.
واللافت أنه كلما مرّ لبنان بمنعطف خطير، خصوصاً إذا كان متعلقاً بالصراع الدائر في منطقتنا العربية، في مواجهة الغزوة الصهيونية المدعومة من الغرب؛ وتواطوء بعض الأنظمة العربية المعروفة، تخرج أصوات تدعوا إلى تحييد لبنان وكأنه جزيرة معزولة عن محيطه وجواره. متناسية أنها هي في الأصل، لا تتعامل مع قضايا المنطقة بحياد وتجرد وصدق، بل أنها لعبت وتلعب أدواراً خبيثة، تتراوح بين التواطؤ والتحريض والمشاركة المباشرة في مختلف القضايا وحسب مصالحها وارتباطاتها السياسية. وموقف أصحاب تلك الأصوات من مختلف القضايا العربية وصراعاتها، تبين أنها طرف منحاز وأنها غير صادقة في دعوتها للحياد. وهي ليست من الذين «خذلوا الحقَّ ولم ينصروا الباطل»، بل هي تخذل الحق وتنصر الباطل. وجل ما تريده هو الوفاء بتعهداتها التاريخية للحركة الصهيونية، بالتكامل معها في محاربة كل نهضة في المنطقة تشكل خطراً على غزوها واحتلالها لفلسطين.
وتتكامل دعوة الحياد تلك، بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي "لمساعدة لبنان على إعادة إنتاج سلطته واستعادة سيادته الوطنية". لكن الحياد في عرف هؤلاء هو التبعية للغرب والولاء له. وهذا نراه بوضوح في ربط كل علاقات لبنان مع الغرب والولايات المتحدة، في حين يحارب مدعو الحياد أي علاقة تفيد لبنان إقتصادياً وسياسياً مع روسيا أو الصين أو إيران.
والجديد في السعي لزيادة توتير الأجواء، أن نواب الغفلة، الذين تبين أنهم لا يختلفون عن جماعات الفساد، نواب تحالف زعماء الطوائف واصحاب المصارف، تقدموا في هذا الوقت العصيب، إقتراح قانون جديد للأحوال الشخصية، يعرفون مسبقاً أن المسلمين يرفضونه، لأنه لا يراعي شريعتهم؛ ويهدف في نهاية المطاف إلى تشريع الفساد والمثلية الجنسية ومساواة الجنسين في الميراث وفي تعدد الأزواج والزوجات. فهل يحن هؤلاء إلى زمن البطريرك أنطوان عريضة، الذي دعا إلى طرد المسلمين من لبنان "ليذهب السنة إلى مكة والشيعة إلى العراق"، حسب قوله. وهو ما تطابق مع مواقف معاصره المطران اغناطيوس مبارك، في تأييده للحركة الصهيونية وتنسيقه معها، فسارت تظاهرات في بيروت في ذلك الوقت، بإيحاء من رياض الصلح، هتف المشاركون فيها: "مبارك صباطك يا رياض وشراريبو عريضة". رفضاً لأن ينطق حلفاء الحركة الصهيونية، باسم اللبنانيين.
هذا المشهد الفتنوي تكامل بحادث العاقبية الأخير، الناتج شكلا عن خطأ دورية من قوات الطوارىء الدولية، بتجولها خارج الطريق الدولية وخارج منطقة عملها، المحددة بجنوب نهر الليطاني، فيما هو عملياً محاولة فرض تعديل دور ووظيفة القوات الدولية في لبنان، لتمتد إلى مختلف المناطق، وصولا إلى الحدود السورية. فاذ بأصوات الفتنة تستغل الحادثة وتنحاز ضد المواطنين اللبنانيين، الذين إعترضوا على تصرف الدورية الإيرلندية، التي إجتاحت جمعاً من المواطنين واصابت أحدهم بجراح، فكان الرد باطلاق النار عليها. ولا ننسى أن هناك بعض اللوبييات اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية، تسعى إلى تدويل الأزمة اللبنانية، من أجل تمرير مشروعات تسعى إليها، تحت عنوان "المناطق الآمنة"؛ وهي شكل من أشكال تقسيم لبنان. فهل جاء تحرك الدورية الإيرلندية، ليضع هذا التوجه على نار حامية. ولطالما كان التواصل اللبناني الرسمي على أعلى المستويات، مع قادة الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة. وليس بشارة الخوري أفضل حالاً من إميل إده في هذا الشأن. فأحدهما دعا الصهاينة لتوطين مائة الف يهودي في المنطقة بين صيدا وصور. على أن يطرد سكان هذه المنطقة إلى العراق. والآخر طالب بالا يكون جبل عامل حائلاً بين لبنان و"إسرائيل"، فيتم إخلاءه من سكانه الشيعة واسكان مغتربين لبنانيين من طائفة أخرى مكانهم. كل ذلك تحت ستار حياد لبنان عن صراعات المنطقة. فهل هناك ضمانة بألا تتحول هذه الحرب الباردة اللبنانية إلى حارة، أم آن الأوان ليجلس اللبنانييون وحدهم، من دون أي مشاركة غريبة أو أجنبية، ويتحاوروا ويتفقوا على الخروج من هذا النظام الطائفي إلى نظام المواطنة، بما يلغي الطائفية والتمييز والمحاصصة؛ ولا يلغي الأديان خدمة للمشروع الصهيوني. ويكون باباً للحلول وليس طريقاً للفتنة. والأولى بنواب الغفلة، فتح ملفات الفساد، إبتداء من "الدجاجات التي تبيض ذهباً" لأولياء الأمر، مثل كازينو لبنان وصندوقه الأسود، "مجلس الإنماء والإعمار"، مجلس الجنوب، صندوق المهجرين، مافيا المحروقات، التهرب الضريبي، ألأملاك البحرية والنهرية التي إستولى عليها كبار المسؤولين ومحاسيبهم؛ وغيرها من جزر ومحميات مستقلة داخل الدولة، تنهب الخزينة دون حسيب أو رقيب.