البلد القاصر، منذ زمن والي الشام ووالي عكا! ـ أمين أبو راشد

الأربعاء 14 كانون الأول , 2022 09:07 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

رجلٌ حكيم من قريتي، عاصر سفربرلك والمجاعة والطاعون وكل أصناف المآسي في زمن العثمانيين، قال لي في بدايات الحرب اللبنانية عام ١٩٧٧: "هالبلد يا ابني ما رح يعرف يكبر، كل عمرو من إيام العثملِّي، بدُّو رضا والي الشام ووالي عكا".

أترحَّم على ذاك الجيل الذي قرأ بالفطرة والخبرة، مستقبل هذا البلد ومقياس بعض الأقزام الذين حكموه، منذ زمن السلطنة على لبنان، التي نبتت في فيء طغيانها معظم ألقاب البيك والشيخ والأفندي، مروراً بوصاية كل "مندوب سامي" سواء كان دولياً أو إقليمياً، ووصولاً الى "حكم السفيرة والسفير" في أيامنا، التي بلغنا فيها حضيض السياسة، ونحرنا السيادة على أدراج الغير وأعتابهم، نتلقى منهم تعليمات ودروس "الدبدبة"، بانتظار أن نكبر يوماً ونتعلَّم المشي دون أن نحتاج من يأخذ بيدنا.

العجيب في أمرنا، أن إعلامنا أكبر من فعلنا، لا بل أفجر، وجعجعتنا كما حجر الرحى الذي مضى عليه عمرٌ يدور بلا طائل وبلا حنطة وبالتالي بلا طحين، ونُعالج الأمور الكبيرة بالصياح أو الندب أو البكاء، والأمور الصغيرة نواجهها كما وأنها لعبة بيت بيوت، تختلط فيها الأدوار ونتشاجر فيها كما الصغار.

وإذا كانت الأمور الكبيرة هي في الكارثة الاقتصادية، وفي العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية وسط "حكومة تصريف وقت" مشكوك بشرعيتها، وأوصل البعض من قياداتنا - سواء الدينية أو المدنية- شكوانا الى الأمم المتحدة، بضرورة انتخاب رئيس، تماماً كمطالبتهم السابقة الداعية الى الحياد، فإن هذه الطروحات تستجلب المزيد من الدببة الى الكرم مع علمنا المسبق بقدرات وقرارات الأمم المتحدة في هذا الإطار.

أما إذا كانت الأمور صغيرة وبحجم الأولاد القاصرين، الذين ركبوا دراجات نارية، بعضها بدون لوحات، وجالوا في نصف مساحة بيروت قبل أن يصلوا الى ساحة ساسين، فإن كل الدنيا قامت ولم تقعد كلامياً وتبييضاً للطناجر، عبر الشجب والاستنكار والتحليل والتحريم، مع تسجيل شكرنا لله، أن الاحتفال الرياضي كان "مغربياً عربياً" والمحتفلون الذين "غزوا" الأشرفية هُم من طريق الجديدة، وأن إيران خرجت من كأس العالم وبالتالي لم تحتفل دراجات الضاحية في الأشرفية وإلا كانت سوف تعتبر وكأنها "حرب المئة يوم" عليها!

وكما التضخيم في الأمور الكبيرة، عبر الصياح للأمم المتحدة في كل صغيرة وكبيرة ترتبط باستحقاقات وطنية داخلية صرفة، كذلك هو حالنا في الأمور الصغيرة، حيث أننا لم نرَ دورية قوى أمن توقِف أو تُلاحق زمرة اولاد يخالفون قوانين السلامة المرورية ويُعرِّضون انفسهم والغير للكوارث، هذا قبل وصولهم الى ساحة ساسين، التي لولا الجيش لتحوَّلت الى ساحة معركة تذابح، بعد أن باتت الساحات فشَّة خلق الموتورين الفالتين في الشوارع، وليت البعض يتوقف عن فذلكات واجتهادات واتهامات سياسية غير مسؤولة، أن هناك جهات حزبية تدفعهم، لأن الكل على مستوى القيادات، أياديهم على قلوبهم من الإنفلات الأمني، الذي لو حصل لا سمح الله في هذا الوضع المعيشي التفقيري، لإنقلبت الأمور الى حرب عصابات وسرقة وتكسير ونهب في تحليلٍ للحرام يكاد يُبيح كل المحرمات.

وسواء كانت الأزمات اللبنانية كبيرة أو صغيرة، فلم تعُد تحركات ولقاءات البعض بالبعض الآخر ذات جدوى ومغزى، كزيارة الرئيس نجيب ميقاتي الى البطريرك الراعي، لأن الأول ليس بموقع تمثيل طائفته، والثاني فشل في جمع ثلاثة او أربعة زعماء من الطائفة معنيين بالملف الرئاسي.

على عكس الروتين الذي عنوانه الملل من بعض الوجوه، النيابية والوزارية والحزبية، أتت زيارة مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم الى مقر الرابطة المارونية، واجتماعه بأركانها الحاليين والسابقين هي الأبرز، مع ما للواء ابراهيم من تاريخ في مواكبة الاستحقاقات الوطنية.

طُرحت خلال هذه الزيارة الأزمات الكبيرة والصغيرة بعمق وصراحة، خاصة ما يرتبط بتحفيز الرابطة، التي تضم نحو ألف منتسب من نخبة الأكاديميين ورجال الأعمال الموارنة، للقيام بدورها في تقريب وجهات النظر المسيحية عامة والمارونية خاصة، وبين الزعماء الموارنة على الأقل، في مسألة تأمين توافق على مرشح لرئاسة الجمهورية، والكلمة المطوَّلة التي شاءها اللواء ابراهيم مكتوبة، لمزيدٍ من الدقة في إيصال الرسالة الصادقة، يُنصح كل لبناني سيادي حقيقي ووطني نزيه قراءتها، من حيث حرص رجل المهمة على الدور المسيحي ضمن النسيج اللبناني، ما يتطلب جهد النُخب المسيحية المارونية على الأقل، في جمع ما عجزت عنه بكركي لغاية الآن، ونحن لا نرى الحل سوى في انتفاضة النُخب الأهلية والنقابية الى جانب الحزبية، لكبح جماح الكبار الغارقين في الصغائر، وردع الصغار عن ارتكاب الكبائر...


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل