أقلام الثبات
لم يصدق أحد في العالم أن ما جرى في المانيا قبل أيام أنه "محاولة انقلاب" أفشلتها السلطات في حملة امنية اعتقلت خلالها 25 شخصاً من أصل 51, ليس من تشكيلهم أي شخص ذات قيمة معنوية يمكن أن تستقطب الرأي العام باستثناء بيرجيت مالزاك وينكمان عضو البوندستاغ السابقة عن حزب البديل من أجل ألمانيا، وهي محامية وقاضية وسياسية كان من المفترض، بعد الاستيلاء على السلطة، أن تصبح بيرجيت مالزاك وينكمان وزيرة للعدل, كما ان اللامبالاة الدولية ولا سيما فيما يسمى "العالم الحر", وأجهزته الإعلامية, والعاملة تحت سيطرته المنتشرة حول العالم ,كانت واضحة وضوح غريباً في عدم الاكتراث, رغم نفخ السلطات الألمانية في خبر الاعتقالات ذات الصلة , والتشديد على ان الهدف الأساسي للانقلابيين المفترضين الاستيلاء على السلطة.
المتهم في العملية: حركة سياسية أطلقت على نفسها اسم "حركة مواطني الرايخ"، وهي حركة تشكلت مُنذ ثمانينيات القرن الماضي في ألمانيا، والمنتمون إليها لا يعترفون بالدولة الألمانية الحديثة ولا بقوانينها، ويمتنعون عن دفع الضرائب والمخصصات الاجتماعية، ولا يحملون هويات أو جوازات سفر ألمانية، ولديهم هويات خاصة بهم، كما أنهم يطالبون الأعضاء بأن تعود حدود الدولة الألمانية إلى عهد الإمبراطورية الألمانية الثالثة.
لقد ألقت السلطات القبض على 25 شخصاً من أصل 51 خلال عمليات دهم واسعة شملت 11 ولاية ألمانية من أصل 16 ولاية تتكون منها ألمانيا، وبين هؤلاء عسكريون وسياسيون سابقون ومحامون, حسب ما وزعته السلطات الامنية الرسمية , وشارك فيها 3 آلاف من أفراد وحدات النخبة في جهاز مكافحة الإرهاب. واستهدفت عمليات الدهم الذين يخططون لاقتحام البرلمان والاستيلاء على السلطة، وتنفيذ هجمات مسلحة على مؤسسات تشريعية ألمانية أخرى. وفقاً لبيان المدعي العام الألماني الذي قال أيضاً: إن هؤلاء كانوا يتشاورون ويحاولون تنظيم عمليات اقتحام لمؤسسات الدولة الألمانية، والتخطيط لقلب نظام الحكم فيما يُشبه الانقلاب، وإعادة الملكية من خلال تنصيب ملك لا يعترف بالنظم الحالية في أوروبا ولا سيما في ألمانيا والقائمة على أنقاض ألمانيا الهتلرية النازية.
الرأس المتهم حتى الان في محاولة عملية الانقلاب المفترضة رجل في ال71 من العمر يوصف بـ “الأمير” ويُدعى هاينريش الثالث عشر، كان له دور محوري في ما يتعلق بالمخطط الانقلابي. ووفقا للمدعين الفيدراليين، فإن هاينريش هو واحد من اثنين من زعماء العصابة المزعومين، وإن من يستخدم لقب الأمير وينتمي إلى البيت الملكي لرويس، الذي حكم أجزاء من ألمانيا الشرقية، تواصل مع ممثلي روسيا، الذين اعتبرتهم المجموعة جهة الاتصال المركزية لتأسيس نظامها الجديد بمجرد الإطاحة بالحكومة الألمانية.
وقالت وزارة الداخلية الألمانية، إن التحقيقات مع العناصر التي جرى اعتقالها كشفت عمق التهديد الإرهابي في الداخل وإن القانون سيطبق بحزم ضد العناصر المتطرفة. واعتقلت ضابطا سابقاً في الجيش الألماني يبلغ من العمر 64 عاما تربطه صلات بجماعة يمينية متطرفة مشتبه في أنها كانت تستعد للإطاحة بالدولة في ألمانيا بصورة عنيفة.
بين المعتقلين شخصين، أحدهما أوقف في النمسا والآخر في إيطاليا، وأعلنت السلطات الإيطالية أن المعتقل ضابط سابق في الجيش الألماني يبلغ من العمر 64 عاماً تربطه صلات بجماعة يمينية متطرفة مشتبه في أنها كانت تستعد للإطاحة بالدولة في ألمانيا بصورة عنيفة.
كل تلك التهويلات التي لا تبدو قوية من حيث تشخيص مراميها، لم تلق التفاعل الدولي المطلوب، والذي يرتقي الى سيل من ردود الفعل، أكان في الإدانة، أو وضع الإمكانات في الخدمة، حتى أن الولايات المتحدة المعروفة، بأنها الجهة رقم واحد في تدبير الانقلابات في العالم، لم ينبث مسؤولوها ببنت شفة، باستثناء بيان مجاملة قالت فيه المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان: "نحن على اتصال بزملائنا في ألمانيا ومستعدون للمساعدة إن طلب منا ذلك".
من الواضح، واستناداً إلى ما صدر عن السلطات الرسمية، لا يعدو كونه لزوم البروباغندا على الطريقة الغوبلزية، حتى يصدق العالم ما لا يمكن تصديقه، سيما أنه ليس هناك ولو تمريرة باهتة بأن كتيبة أو سرية أو حتى فصيلة عسكرية أو أمنية تحركت، أو كانت جاهزة للتحرك خلال الانقلاب الافتراضي، ولذلك فإن السؤال: من هو الذي سينفذ الانقلاب، واستلام السلطة بالقوة ؟
بلا شك أن ألمانيا تعيش أكبر أزمة منذ الحرب العالمية الثانية, ليس بسبب العمليات العسكرية في أوكرانيا فحسب، بل بسبب عدم الجرأة في قول لا لأمريكا التي أوصلت اقتصاد ألمانيا الى مأزق عميق، ودفعت حكومة اولاف شولتس نحو العسكرة، حتى أعلن أن يجهز 30 الف عسكري بموازنة هي الأكبر في تاريخ بلاده ليكون ظهيراً قوياً ضمن حلف الناتو العدواني.
إن محاولة الإضاءة على حركة تستمد أفكارها من النازية من خلال نفخها بأن لديها 52 مطلوبا في 16 ولاية، لايعدو كونه محاولة جذب الانتباه الى امكنة أخرى مع الغضب الشعبي المتعاظم من سياسة الحكام , خصوصاً أن الاحتجاجات التي تشهدها القارة الأوروبية وليس ألمانيا وحسب، تؤكد على مناهضة الناتو وافعاله القذرة، وضد القواعد الأميركية في بلادهم، وضد عودة العسكرة وسباق التسلح، ووضع أوروبا بمواجهة القوى والدول التي كانت تساعدها، وفتحت لها اذرعها، سواء إيران أو روسيا أو الصين.
في الجوهر فقد الاوربيون المبادرة وزمامها منذ زمن، وأظهرت الحرب في أوكرانيا مدى التبعية لواشنطن، ولذلك فإن الغبار يمكن أن يحجب الوقائع، لكنه سينقشع ولو بعد حين، وعندها سيظهر نتائج فقدان زمام المبادرة، التي حرمتها السياسة الأمريكية المدمرة في الاتحاد الأوروبي والتي تزعزع الاستقرار هناك.
إن السياسة الأميركية خلف هذه "الفوضى". فواشنطن وعدت أوكرانيا بالانضمام إلى الناتو، مدركة أن ذلك يهدد الأمن الروسي بشكل مباشر. وأرادت (واشنطن) إضعاف ليس فقط روسيا بل وألمانيا أيضاً، وذلك من خلال إجبار برلين على شراء الغاز الأمريكي باهظ الثمن بدلاً من الغاز الروسي الرخيص.