أقلام الثبات
استضعف النافذون والحاكمون الشعب اللبناني فاستباحوه. استضعفوه، بعدما نجح تحالفهم، المؤلف من زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، في تقسيمه إلى طوائف ومناطق وعشائر. وكيف لشعب تنخره عصبيات ثماني عشرة طائفة ومثلها من الولاءات السياسية والحزبية والمناطقية، أن يشكل قوة نخبوية أو شعبية فاعلة، يواجه بها تحالف الإقطاع القديم والجديد والرأسمال وجماعات الإحتكار والفساد، التي تتسلط على اللبنانيين وتتحكم بحياتهم وتصادر حاضرهم وترسم مستقبلهم، وفق مشيئتها ومصالحها.
أستبيح اللبنانيون عندما قررت دول الوصاية الأجنبية تحويل المتصرفية إلى كيان سياسي، يتولى القناصل والسفراء إدارته ويشرفون على اداء زعمائه. فجرى ضم وفرز وكأن الأقضية الأربعة مجرد عقارات، تحوي قطعاناً وليست بشراً لهم رأي يجب أن يؤخذ به وموقف جدير بالإحترام.
واستبيحوا عندما أسس لهم الأجنبي نظاماً قائماً على التمييز والعنصرية، فامضوا المائة سنة المنصرمة من عمر كيانهم وهم يتسابقون على الإستقواء بالخارج، قريباً وغريباً. ويتصارعون على حصص الحكم وغنائمه. ومن يسرق منهم من حصة غيره، تكبر زعامته ويتوسع نفوذه عند جماعته الطائفية والمناطقية؛ ويكبر رصيده بين أصحاب الأموال والعقارات وحسابات المصارف وإداراتها.
واستبيحوا عندما ركنوا إلى منهج في الحكم، يقوم على بناء إدارة تتسول من الخارج لتعيش، تهمّش الزراعة وتحارب الصناعة وتهجّر المبدعين والشباب وطلاب العلم. فتغرّب اللبنانيون فرادا وجماعات في دنيا الله الواسعة، بحثاً عن أمن وأمان ولقمة عيش، لأن تكريس الواقع اللبناني غير السوي، يقتضي بين وقت وآخر إشعال حروب وفتن داخلية، تعمّق الإحساس بالإنتماء لهذه العصبية أو تلك. وهكذا يتخلص الحاكمون من نخبة معارضيهم الفاعلين ويبقى لهم الموالون والأتباع.
واستبيحوا عندما جرى إقناعهم أن بعضهم عربي قح والآخر إنعزالي مقيت؛ وأن هذا تقدمي والآخر يميني، فيما أكثرية اللبنانيين المطلقة من أرومة عربية واحدة؛ ومعظمهم فقراء معدمون، يتوسلون الزعيم ليتكرم عليهم بوظيفة، يسدون براتبها رمقهم ويعيلون بواسطتها عوائلهم.
وهل ننسى أن أحد أبرز "الإنعزاليين" وهو رئيس جمهورية سابق، خاطب رئيس العراق الأسبق، غازي مشعل عجيل الجرباء الياور، المعيّن من قبل رئيس سلطة الاحتلال العسكري الأميركي بول بريمر عام 1984؛ وهو إبن شقيق شيخ مشايخ شمّر إحدى أكبر القبائل العربية، بعبارة "ابن عمنا". كما أن زعيم "التقدميين اللبنانيين" هو إقطاعي بالوراثة، لنعرف أن إنقسامات اللبنانيين مفتعلة خدمة للنظام ومصالح أركانه، فابن قبيلة شمّر رئيس العراق آنذاك، هو "ابن العمّ" طالما أن ولاؤه للأميركي، لكنه يصبح غريباً عندما يمارس سياسة إستقلالية عن التبعية لدول الغرب، التي سبق أن إحتلت بلادنا واستعمرتها.
ويحتاج تفصيل استباحة حلف الفساد المتحكم باللبنانيين، منذ أن أورث الإنتداب الفرنسي الحكم لزعماء عائلات محددة، تعاونوا معه وخضعوا لنفوذه، إلى أكثر من مقال وربما أكثر من كتاب. لكن شعوباً قليلة تعرضت إلى ما تعرض له اللبنانيون من محن وفتن واستغلال، خلال عمر هذا النظام، خصوصاً في العقود والسنوات الأخيرة، حيث مورست بحقهم سياسة إفقار وإذلال منظمة ومخطط لها، تعاون فيها الحاكمون مع الخارج الغربي والعربي، لكسر إرادة اللبنانيين وسوقهم إلى الخضوع للأمر الواقع "الإسرائيلي"، المفروض تحت مظلة القوة الأميركية والمال النفطي الخليجي.
وبلغت الوقاحة عند الممسكين بزمام السلطة والمال، أنهم بعدما نهبوا أموال اللبنانيين المودعة في المصارف وهرّبوا معظمها إلى الخارج؛ وعطلوا القوانين وشلوا القضاء بزبائنيتهم، باتوا يمارسون إستعلائهم على المكشوف، حيث يعدون اللبنانيين بحلول عقيمة وغير جدية، فيما عيونهم مركزة على مصدرين للمال، يتحرون الطريقة والوسيلة للإنقضاض عليهما وهما: أموال اللبنانيين التي تمكنوا من سحبها من المصارف وخبأوها في منازلهم؛ والتي يقدرها البعض بسبعة مليارات دولار؛ ورصيد لبنان من الذهب، الذي لا يعرف سوى قلّة ما هو موجود منه في خزائن مصرف لبنان؛ أو ما هو موجود في خزائن البنك الفدرالي الأميركي. وهذه الكمية الأخيرة يشك كثيرون من العارفين بأن الولايات المتحدة في وارد إعادتها إلى لبنان، بناء لتجارب دول آخرى.
وآخر الاعيب جماعة السلطة والمال، إستعمالها لبعض الإعلام وبعض من يسمون أنفسهم "خبراء ماليون"، لتضليل الناس وغسل أدمغة الجمهور، حتى ضاعت الحقيقة أمام المواطن والمودع، في معرفة هل أن ما يفبرك في مجلس النواب من قانون "الكابيتال كونترول"، هو لصالح المودعين، أم هو لحماية أصحاب المصارف من سعي أصحاب الحقوق لإسترداد أموالهم. حتى أن أحد "خبراء المال" تطوع مؤخراَ بـ"المونة" على حاكم مصرف لبنان، "ليسرّب" بأنه سيصدر تعميماً، سيؤدي إلى تراجع سعر صرف الدولار الأميركي، في لعبة مكشوفة ورخيصة، لدفع الناس إلى بيع ما تملكه من دولارات في السوق الموازية، بما يلجم الإرتفاع المتواصل والمتوقع أن يستمر، لسعر صرف الدولار، نتيجة رفع قيمة الدولار الجمركي عشرة أضعاف، ليصبح 15 الف ليرة، في حين لم تضاعف بعد قيمة رواتب العاملين، في القطاعين العام والخاص، فتكون إجراءات الحاكمين كالمنشار صعوداً ونزولاً، في جيبة المواطن وحياته، في إستباحة لا يوقفها قانون ولا يحدها ضمير ولا توجد قوة شعبية يعتد بها تحق الحق وتزهق الباطل.