أقلام الثبات
إذا كان هناك في لبنان من جهابذة في القانون والإجتهاد الدستوري، فليتفضل أحدهم ويشرح للشعب اللبناني، السجال الدستوري حول الإجراء الذي اتخذه الرئيس ميشال عون باعتبار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة - سيما وأنها فاقدة للشرعية منذ الإنتخابات النيابية في أيار 2022 - وجواب ميقاتي على الرئيس عون أن حكومته باقية في وضع تصريف الأعمال، وربما الى ما شاء الله، طالما أنه قرر عدم تشكيل حكومة جديدة، في ظلّ دستور لم يحدد له مهلة للتشكيل، وهو بالتالي حلل لنفسه عدم التشكيل، والاستمرار في "التصريف"!
نحن لن نُعيد الشعب اللبناني الى العام 551 عندما كانت بيروت أم الشرائع وضربها الزلزال، لأن البكاء على أطلال 15 قرناً خَلَت لا داعي له، طالما أن هذا الشعب لديه ما يكفي من أطلال يبكيها خلال العام 2022، البكاء على كل مؤسساته القضائية والتشريعية والتنفيذية، والجُهبُذة المطلوب منه الإجابة على أي تفسير دستوري، لا نعرف أين يكون، في مجلس النواب، أو في المجلس الدستوري أو مجلس شورى الدولة، لا نعرف، ونقسم بالله العظيم أننا لا نعرف، لأننا لا نريد أن نعرف حقيقةً نخجل بها، وتمنعنا من مواجهة المرايا حتى داخل بيوتنا، فكيف لبلدٍ بلا ضوابط ذاتية، أن يواجه ديبلوماسياً أدنى دولة في الخارج؟
ولأننا نعيش زمن الجهابذة، حيث كل سياسي وإعلامي و"مهووس تيك توك" يعتبر نفسه مرجعية قانونية ودستورية، و"الكل فايت بالكل"، و"الكل فايت بالحيط"، نذهب مع اللبنانيين الى تاريخٍ قريب، ونبكي معهم على خيبتنا، ونعطيهم مثالاً قريباً في الزمان والمكان.
عندما قامت قيامة الثورة في مصر على رئيس الجمهورية محمد مرسي عام 2013، وبعد 24 ساعة من تعيين مرسي بنفسه للقاضي عدلي منصور رئيساَ للمحكمة الدستورية، قررت هذه المحكمة ومعها القوات المسلحة، التجاوب مع المطالب الشعبية، وتعليق العمل بالدستور وإقالة مرسي، ليغدو عدلي منصور بصفته رئيساً للمحكمة الدستورية، رئيساً مؤقتاً لمدة سنة بهدف التحضير لإنتخابات رئاسية.
كيف حصل هذا؟ عزل رئيس وتعيين رئيس خلال يومٍ واحدٍ؟ نعم حصل، لأن مصر لديها دستور وجهابذة فعليين لتطبيق الدستور منعاً للفراغ، فيما الطبقة السياسية والقضائية الفارغة من المسؤولية في لبنان يعيش الشعب بسببها منذ عقود فراغاً من حق الحياة!
وبانتهاء ولاية الرئيس عون بنهاية شهر تشرين الأول، انتهينا من لعبة البيضة قبل الدجاجة، أو الدجاجة قبل البيضة، وانتخاب رئيس للجمهورية قبل تشكيل الحكومة أو العكس، وها هو لبنان الآن بلا رئيس جمهورية وبحكومة مشكوك بشرعيتها، والكرة الآن في مرمى المجلس النيابي، بل بين أقدام نواب أداؤهم لغاية الآن كما النوائب.
ولا مجال في هذه المقالة لتحليل مرحلة الفراغ القادمة، وما دام موضوعنا هو الدستور، دستور الطائف الهجين، فلا عتب على كل المجتهدين في القانون، لو عجزوا عن تفسير المواد القانونية والدستورية، طالما أن هذا "الطائف" قد ارتكب صائغوه جريمتين كبيرتين بحق النظام اللبناني ويستحقون محاسبة تاريخية.
أولاً، الطائف لم ينتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً، بل لصالح رئيس مجلس الوزراء، الذي يتوارث بدعة الإعتكاف منذ المرحوم رفيق الحريري، إضافة الى "السلحفة" في تشكيل كل حكومة وصولاً الى تعطيل البلاد، كما حصل من الرؤساء سعد الحريري وتمام سلام وصولاً الى ميقاتي، لأن الطائف لم يحدد مهلة للرئيس المكلّف للتشكيل أو الإعتذار.
ثانياً، لم يحدد الطائف ايضاً مهلة لمجلس النواب لإنتخاب رئيسٍ الجمهورية، كما في معظم الديمقراطيات البرلمانية في العالم، مثل اليونان على سبيل المثال، حيث يحلّ البرلمان نفسه ويدعو الى انتخابات نيابية مُبكرة في حال فشِل في انتخاب رئيسٍ للجمهورية خلال مهلة ثلاثة أشهر.
ختاماً، كفانا تحميل الغير مسؤولية استيلاد الطائف، سواء المملكة العربية السعودية أو سوريا، لأن النواب اللبنانيين الذين اخترعوا هكذا طائف، عقولهم المحدودة حالت دون توقُّع الإشكالات الدستورية اللاحقة، والتي هي بانتظارنا في المرحلة المقبلة، وكفانا مكابرة واستعلاء فارغين، وبيروت أم الشرائع والتاريخ العظيم، لها منا دموعنا على أطلال الشرائع والقوانين والدساتير، بوجود طبقة سياسية تُدير السلطة لعقود، وهي في غالبيتها من سلالة لقطاء الأرصفة ودكاكين الميليشيات...