أقلام الثبات
أعوام ثلاثة مرّت على انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لم تستطع خلالها تحقيق المطالب التي نزل الشعب اللبناني من أجلها، بالرغم من أن الاندفاعة الأولى لتلك الانتفاضة حظيت بتأييد الاغلبية من اللبنانيين، قبل أن يستدرك العديد من المتظاهرين ومعهم القوى السياسية أن هناك من يستغل المطالب المشروعة للبنانيين لتحقيق انقلاب سياسي ليس في صالح لبنان.
وإذا كان من أرباح حققتها تلك الانتفاضة، بإنها كشفت جميع الأقنعة السياسية "تقريباً"، فمن كان ينظر إليه كرجل دولة، بات بنظر كثيرين "الناهب الأكبر للدولة اللبنانية"، وانكشف جبل جليد التسويات والكيديات السياسية التي عطّلت البلاد وحرمت اللبنانيين من حقوقهم الأساسية بسبب السمسرات والصفقات والكيديات.
لكن، منذ ذلك التاريخ، تبدلت أحوال اللبنانيين، فسرقت الودائع، وانهار الاقتصاد اللبناني وتعطلت الكهرباء وانهارت المؤسسات وسحقت الطبقات المتوسطة والفقيرة ... أما سياسيًا، انهارت معه التسويات السياسية الناظمة للعلاقة بين أركان الحكم، وخرج سعد الحريري من الحكم معتزلاً الحياة السياسية بشكل نهائي، ما يمكن اعتباره الخاسر الأكبر من انتفاضة تشرين الأول، بينما صمد شريكه في التسوية جبران باسيل، واستطاع أن يقلب المعادلات في خلال أقل من ثلاث سنوات، فيصبح رقماً أساسياً في معادلة الترسيم البحري الذي رعته أميركا.
وبالعودة الى اتفاق الترسيم البحري، فبالرغم من الفرحة العارمة التي يشعر بها معظم اللبنانيون على اختلاف مشاربهم، تستمر الكيدية السياسية والشعبوية في محاولة منع اللبنانيين من الفرح والأمل بمستقبل أفضل، أما الجديد في هذه الجدال السياسي والاعلامي، فهو الادعاء بأن اتفاق 17 أيار أعطى لبنان أكثر مما أعطاه ملف الترسيم الحالي، ونلفت في هذا الاطار بعد إجراء مقارنة علمية بين الوثيقتين، لما يلي:
أ- يختلف 17 أيار 1983، بشكل جوهري وأكيد عن اتفاق الترسيم البحري الحالي بين لبنان واسرائيل، فالاتفاق الاول هو – بالمبدأ- معاهدة سلام مع اسرائيل فيها علاقات دبلوماسية وأطر أمنية وتعاون وتنسيق اقتصادي وسياسي وعسكري وأمني الخ، بينما اتفاق الترسيم البحري هو مجرد تفاهم على تقسيم بلوكات وثروة بحرية في المنطقة الاقتصادية الخالصة، بدون اي تعاون أو تفاهم أو تنسيق أو تطبيع بين الطرفين.
ب- بعكس ما يشاع عن أتفاق 17 أيار أعطى لبنان مساحات أوسع من اتفاق الترسيم الحالي، يجب التأكيد أن اتفاق 17 أيار لم يقم بأي ترسيم مطلقاً والخريطة المرفقة ليست للترسيم بأي شكل من الأشكال.
ت- بالعودة الى المادة 3 من اتفاق 17 أيار وملحق "الترتيبات الأمنية" الذي يتضمن الخريطة (المادة الاولى/ فقرة ب) والتي يتم استخدامها في الاعلام، نجد أن هدف الخريطة واضح ومحدد في المادة الثانية في الملحق _الترتيبات الأمنية، وهو قيام القوى الأمنية اللبنانية بتأمين أمن اسرائيل، وهي تنص حرفياً على ما يلي: "تتخذ السلطات اللبنانية تدابير أمنية خاصة لكشف النشاطات العدائية ومنعها، كما لكشف ومنع إدخال أو تحرك المسلحين غير المسموح لهم وكذلك إدخال أو تحرك التجهيزات العسكرية غير المسموح بها في المنطقية الأمنية أو عبرها....."
ث- كما هو واضح من نصوص الترتيبات الأمنية التي ترتبط بها الخريطة المشار إليها أعلاه، نجد أن "اسرائيل" كانت تهدف الى جعل "الجيش اللبناني والشرطة اللبنانية والانصار" – كما هو وارد في النص- حراس حدود "لاسرائيل". وحددت الاتفاقية بالتفصيل مهامهم، والأسلحة التي يستطيعون استخدامها، وجعلت هؤلاء تحت اشراف لجنة عسكرية مشتركة لبنانية- اسرائيلية بقيادة ضباط اسرائيليين، تجتمع كل اسبوعين للتنسيق.
ج- لا تكتفي اللجنة الأمنية بالتحقق والسهر على امن اسرائيل في البحر، لكنها تتحقق أيضاً من تأمين أمن "اسرائيل" من كل النواحي، وتقوم بكمّ الافواه في الداخل اللبناني وتمنع انتقاد "اسرائيل"، وذلك تطبيقاً لنص المادة 4 من هذا الاتفاق، والتي تنص على عدم السماح لجهات أو لمنظمات غير حكومية أو غير ذلك "بالتدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر" أو القيام بأعمال تهدد أمنه وشعبه أو تقوم "بالتحريض" ضد اسرائيل الخ... ويتعهد لبنان باتخاذ التدابير "الوقائية والاجراءات القانونية بحق الأشخاص والمجموعات التي ترتكب أعمالاً مخالفة لأحكام هذه المادة".
في الخلاصة، سواء كانت المقارنة الجديدة بين اتفاق الترسيم واتفاقية 17 أيار، ينطلق من كيدية سياسية، أو يهدف الى تمجيد اتفاق 17 أيار لغايات سياسية ترتبط بداعمي هذا الاتفاق في لبنان وداعمي العلاقة مع اسرائيل سابقاً، أو سواء كان مطلقوه قد تعرضوا لحملة تضليل من الفئات السابقة، أو كانوا من فئة الشعبويين الذين يهدفون الى حشد المصفقين، فإن المقارنة لا تصحّ، وإن الاستمرار في هذه الكذبة بعد التفسيرات المتتالية، تعطي أنطباعاً بأكثر من البساطة والجهل والكيدية السياسية، بل بسوء النيّة ورغبة مبيتة في التعامل والتطبيع مع اسرائيل.