أقلام الثبات
منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، بدأ لبنان يشهد المظاهرات الشعبية ضد الطائفية والاحتكارات ومن أجل محاربة الفساد وضرورة الإصلاح وتطوير التعليم والتنمية الاجتماعية المتوازنة، ووقف تدخل السفارات في الشؤون الداخلية اللبنانية.
تميزت هذه المرحلة بانخراط واسع من مختلف الفئات الاجتماعية اللبنانية ومن مختلف الطوائف والمذاهب، في النضال الوطني والديمقراطي، لكن اندلاع الحرب الأهلية بدءاً من بعد ظهر يوم 13 نيسان 1975، عطل هذه التحركات الشعبية الواسعة، ومع توسع واستمرار هذه الحرب القذرة بات الفساد أفقياً وعامودياً، وصارت الكلمة الأولى في مختلف المناطق اللبنانية، وخصوصاً في ما كان يسمى "المناطق الشرقية والمناطق الغربية" لقوى الحرب التي اغتنى قادتها ورموزها، بفعل الدعم الخارجي وفرض الخوات والأتاوات على المعابر وعلى المؤسسات والناس.
البدايات الحقيقية للحرب الأهلية كان لها مقدماتها، فلقد حمل العام 1968 معه مشكلات جمّة للنظام الذي لم يكن قد استفاق بعدُ من الأزمة المالية الكبيرة التي خلفها تحطيم الأوليغارشية اللبنانية بنك إنترا الذي أسّسه الفلسطيني يوسف بيدس، ففي 26/12/1968 أطلق فدائيون فلسطينيون ينتمون إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين النار في مطار أثينا على طائرة تابعة لشركة إلعال الإسرائيلية، كانت تستعد للإقلاع إلى نيويورك، فقُتل ضابط إسرائيلي متقاعد وجُرح آخر. وتذرّعت إسرائيل بتلك العملية للإغارة على مطار بيروت الدولي، فدمّرت 13 طائرة مدنية على أرضه من دون أن يتصدّى لها أحد. وفي إثر عملية الكوماندوس الإسرائيلي تلك، ظهر الانقسام اللبناني في شأن الموقف من العمل الفدائي. وشن حزب الكتائب حملة على ما سُميّت "تجاوزات" الفدائيين الذين كانوا، حتى ذلك الوقت، مجرد مجموعات صغيرة متمركزة على سفوح جبل الشيخ الجليدية في منطقة العرقوب على الحدود مع فلسطين المحتلة. وهنا بدأ الجيش اللبناني يضيّق الخناق على الفدائيين في العرقوب، فانفجرت التظاهرات اللبنانية اليسارية والقومية المؤيدة للعمل الفدائي في 23 نيسان 1969، وسقط قتلى وجرحى، الأمر الذي أدّى إلى اعتكاف رئيس الوزراء، الشهيد رشيد كرامي، في 24/4/1969، بعدما اكتشف أن القرارات الأمنية تُتخذ بمعزلٍ عنه. ودخلت البلاد في أزمة حكومية لم تنتهِ إلا بتدخل الرئيس المصري، جمال عبد الناصر، والتوصل إلى اتفاق القاهرة الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية في 3/11/1969. وتخلل تلك الحقبة انتفاضة المخيمات الفلسطينية ضد مخافر الدرك ومظالمها في 22/10/1969، وصدق على اتفاق القاهرة، ووافق عليه مجلس الوزراء ومجلس النواب دون أن يطلعوا على محتواه وتفاصيله.
كانت الحياة السياسية في لبنان متلاطمة جداً بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، وصار هناك قوام سياسي جديد هو "الحركة الوطنية" الذي قاد النضالات العمالية والفلاحية والطالبية. ففي 1/11/1972 اندلعت تظاهرات عمّال معمل غندور، وسقط فيها العاملان يوسف العطار وفاطمة الخواجة برصاص السلطة. وفي 22/12/1973 انطلقت تظاهرات مزارعي التبغ ضد مؤسسة حصر التبغ والتنباك (الريجي) في النبطية. وفي 24/12/1973 اصطدم المتظاهرون بالدرك اللبناني الذي أمطر المحتجّين بالرصاص، فسقط نعيم درويش وحسن الحايك. وكانت "الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية" قد أُعلن عن تأسيسها وتولى كمال جنبلاط رئاستها. وتَداخلَ النضال الفلسطيني بنضال اليسار اللبناني، وتشابك معه في الموقف السياسي، ووجدت منظمة التحرير الفلسطينية في اليسار اللبناني والقوى الوطنية الأخرى حامياً لظهر المقاومة الفلسطينية، الأمر الذي كان مفقوداً في تجربة الأردن، وسهّل عملية القضاء على الوجود الفدائي في الأردن في عامي 1970 و1971. وكانت تظاهرات الطلبة في الجامعة اللبنانية لا تهدأ، إما دفاعاً عن الجامعة ومطالب الطلاب، أو تضامناً مع الحريات ومع الشعب الفلسطيني. وفي خضم ذلك الحراك، وقعت عملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة (كمال عدوان ومحمد يوسف النجار وكمال ناصر) في شارع فردان، في مدينة بيروت، في ليل 9/4/1973؛ تلك العملية التي قادها من غرفة العمليات الإسرائيلية أمنون شاحاك، وشارك فيها إيهود باراك، وقادها ميدانياً العقيد عوزي يئير الذي قتله الفدائيون في عملية سافوي في 6/3/1975. وكان من بين المشاركين فيها جوناثان نتنياهو (يونا) شقيق بنيامين نتنياهو، الذي قَتَل بيده محمد يوسف النجار، وقتله الفدائيون لاحقاً في عملية عنتيبي في 4/7/1976.
سار في جنازة القادة الثلاثة ألوف اللبنانيين والفلسطينيين، الذين قدر عددهم بنحو 250 ألفاً، معظمهم من اللبنانيين الذين أرادوا الاحتجاج على تقصير الجيش اللبناني في التصدّي للكوماندوز الإسرائيلي، وإعلان تضامنهم مع المقاومة الفلسطينية. ورأى كثيرون أن المقاومة الفلسطينية صارت قوة سياسية لبنانية هامة، ولهذا كان الاستنفار الشامل الذي ترجم بأشكال مختلفة. وهكذا سارت الأمور نحو صدامات في الثاني من أيار 1973 بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية، وكان هدفها الأول والأخير إنهاء الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان. ولكن حسابات اليمين اللبناني جاءت خائبة، فسورية ومصر كانتا تستعدان لحرب تشرين الأول 1973، وكان العد العكسي قد بدأ في شباط 1973. والباحثون يدركون ما معنى عبارة "العد العكسي"؛ فهو ليس العد بالمقلوب، بل وضع روزمانة دقيقة لتفريغ أهراءات القمح مثلاً، ونقل المخزون إلى مستودعاتٍ آمنة، وتفريغ خزانات الوقود وإخفاؤها في أمكنة بديلة، وتحريك مستودعات الذخيرة إلى مواقع خفية، ووضع هياكل زائفة ومموّهة للطائرات والدبابات... إلخ. المهم أن سورية خشيتْ من فتح مشكلة في خاصرتها تطيح استعداد الدولتين للحرب، فأرسل الرئيس السوري حافظ الأسد وزير الخارجية عبد الحليم خدّام إلى بيروت في 5/5/1973 للتوسّط في شأن وقف القتال، لكن الأميركيين أفشلوا المهمة، وعاد القتال إلى الاندلاع في 7/5/1973. وعند هذا الحد، وجّه الرئيس الأسد إنذاراً شديداً، وأغلق الحدود مع لبنان، ثم تلقى لبنان إنذاراً مماثلاً من الرئيس المصري، أنور السادات. وعند ذلك توقفت الاشتباكات.
ما هذا الشيطان؟
في كانون الأول 1973، التقى رئيس الجمهورية اللبنانية، سليمان فرنجية، وزير الخارجية الأميركية هنري كسينجر في قاعدة رياق في البقاع، حيث علق فرنجية على اللقاء متسائلاً عن كسينجر: "شوها لشيطان هيدا"، وظل فرنجية يتحدث لفترة طويلة عن هذا اللقاء، حيث أكد، أن كسينجر فرد أمامه خريطة لبنان وعليها ألوان متباينة هي كانتونات تصورها مصيراً للبنان تعددي، كما حض كسينجر فرنجية على ضرب المقاومة، فرفض الرئيس اللبناني هذا الأمر بعد تجربة أيار ومحاولته استئصال المقاومة مع استخدامه سلاح الطيران، لقصف المخيمات الفلسطينية للمرة الأولى، يومها سمع أيضاً من كسينجر عن تجنيس المسيحيين في أميركا وكندا، وعن توطين الفلسطينيين في لبنان..
وهكذا وسط هذه الأجواء كانت الأوضاع في لبنان تتجه نحو الانفجار، وقبل انفجار الحرب القذرة في 13 نيسان 1975 أطلق الرقيب في الجيش اللبناني، مارون داود، النار على النائب السابق، معروف سعد، الذي كان في يوم 26/2/1975 على رأس تظاهرة احتجاجية لصيادي الأسماك في مدينة صيدا، فأصابه إصابة بالغة، ثم توفي في 6/3/1975. وكانت تلك الحادثة الشرارة التي أشعلت براميل البارود المعدّة سلفاً. وفي 13 نيسان 1975، كانت الأجواء مشبعة بالغضب جراء وفاة معروف سعد، فكانت شرارة بوسطة عين الرمانة التي فجرت برميل البارود، ورغم استهدافها لفلسطينيين، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية، بفصائلها المختلفة، لم تنخرط جدّياً في الحرب الأهلية إلا في أوائل سنة 1976؛ فقد أرغمتها تطورات الميدان العسكري وتحولاته على زجّ قواتها العسكرية في القتال، بعد سقوط مخيم ضبية ومخيم جسر الباشا، وبعد سقوط بعض التجمعات الفلسطينية في حي الكرنتينا وفي حي المسلخ اللبنانييَن، ثم بدء حصار مخيم تل الزعتر. وكان ياسر عرفات يحاول جاهداً أن يتجنب الإنزلاق إلى الحرب الأهلية، لأنه كان يعرف جيداً المخاطر الكبيرة التي ستنجم عنها، ومنها انصراف دول العالم عن دعم قضية فلسطين، وغرق المنظمات الفلسطينية في وحول الحرب الأهلية، والحيلولة دون تحقيق إنجازات سياسية في المجال العالمي بعد خطبته في الأمم المتحدة في 13/11/1974، وكذلك في الميدان العربي، خصوصاً بعد اعتراف المؤتمر السابع للقمة العربية في الرباط في 26/10/1974 بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.
وبصرف النظر مع توسع الحرب الأهلية وتطوراتها، إلا أنها أسهمت في توسيع الفساد في لبنان الذي صار انتشاره عمودياً وأفقياً، ونوعاً من ثقافة الحرب.
(يتبع جزء ثاني من هذه الحلقة عن نوع من ثقافة الفساد الحزبي والمجتمعي).