أقلام الثبات
اعتمد النظام اللبناني الاقتصاد الحر المتفلت من أي ضوابط في عهد الاستقلال ، وتحكم بمفاصله مجموعة من المصرفيين الذين تحالفوا بأشكال مختلفة مع رجال اعمال امتهنوا الاحتكار وسياسيين، وزادوا من عمليات التحكم بمفاصل السوق والنظام مع تشريع الوكالات الحصرية بموجب المرسوم الاشتراعي الرقم 34 في الخامس من آب 1967 في عهد الرئيس شارل حلو ، بحيث غطت عقود التمثيل التجاريّ كل القطاعات الصناعية فشملت الألبسة والأقمشة والأحذية، الساعات، الأدوات الكهربائية والالكترونية، الأجهزة والمعدات الطبية، الأدوية والمستحضرات الصيدلانية، أدوات ومستحضرات التجميل، الخرضوات، الغالات والأقفال، السيارات وقطع الغيار والأكسسوارات والزيوت، الإطارات، المبيدات، المعدات الصناعية، المنتجات العسكرية، القرطاسية واللوازم المكتبية، المفروشات، البلاط والسيراميك، الأدوات المنزلية، الفضيات والكريستال، الأدوات الصحية، الأجهزة الرياضية ومعدات اللياقة البدنية، جميع لوازم الأطفال، الألعاب، استثمار أشرطة الفيديو وغيرها الكثير ...
بشكل عام ، جرت شرعنة أيديولوجية السوق الحرّ في عهد الاستقلال، وهيمن على اقتصاد البلاد جزئياً أو كليا مفهوم "الشطارة في التجارة" الذين اطلق عليهم بدعة "الفينيقيين الجدد" ، المرتبطين بالطبقة السياسية وذوي الأفكار المتشابهة، وتمكنوا من تحويل أفكار السوق الحرة إلى سياسات حكومية رسمية.
رسم هؤلأ " الفينيقيون الجدد" لبنان قائما على القطاعين الخدماتي والمالي بشكل أساسي ،اما قطاعات الزراعة والصناعة فكانت عندهم ثانوية، وبذلك مهّدوا الطريق لجعل الدولة اللبنانية تفتقد إلى مخططات اقتصادية واجتماعية متعلقة بهذه القطاعات الإنتاجية ، وبذلك احتدم الصراع الطبقي والاجتماعي والتوترات الجيوسياسية، وهكذا تمكّن الزعماء السياسيون واتباعهم ، أو "أكلة الجبنة" كما أطلق عليهم الرئيس فؤاد شهاب ، في إشارة إلى ابتلاعهم للقطاع العام، من منع تطور البلاد وتقدمها وتوسيع وتنويع اقتصادها .
مع وصول الرئيس سليمان فرنجية الى سدة الحكم في 23 أيلول 1970 ، كان الصراع الاجتماعي آخذ بالاحتدام بشكل واسع وسريع ، وتجسد في الاضرابات والتظاهرات العمالية والطلابية المتعددة والواسعة جدا ، فلجأ العهد الجديد الى تشكيل حكومته الأولى التي أطلق عليها "حكومة الشباب" التي تشكلت من تكنوقراطيين شباب غير معروفين تعهّدوا بتنفيذ إصلاحات شاملة ، لكن مجلس النواب وطبقة التجار والمحتكرين أحبطوا جهود هؤلأ حتى قبل أن تبدأ ، وهذا ما حدث مع المرسوم 1943 لعام 1971 الذي حاول من خلاله وزير المال آنئذ إلياس سابا زيادة الرسوم الجمركية على أكثر من ٥٠٠ سلعة كمالية مستوردة ، وعلى سلع لها بدائل محليّة، وذلك من أجل حماية الصناعة المحليّة وتوظيف عائدات حكومية إضافية لتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، لكن أحبط هذا المرسوم، إضراب لمدة عشرة أيّام قام به التجار وأصحاب المحلات في بيروت والشركات الاحتكارية ، ودعمته ضمنيّاً أو علنيا الطبقة " السياسية الأوليغارشية" بذرائع واهية جدا وهي أنّ المرسوم سيؤذي السياحة والخدمات والمقاهي والطبقة الوسطى.
الى ذلك أيضا ، خسر وزير الصحة الظاهرة الرائعة في الحياة الرسمية الدكتور إميل بيطار صراعه المرير مع تجار وشركات الأدوية ومستوردي المستحضرات الصيدلانية من أجل جعل الرعاية الصحية أوفر ومتاحة أكثر للبنانيين .
لقد قامت حفنة من الصيدليات ومستوردي المواد الصيدلانية والطبية ، جميعها مرتبطة ب "الأوليغارشية المهيمنة "، بالسيطرة على السوق عبر استيراد أغلى الأدوية فقط وبيعها بأسعار خيالية. وتمكّن هذا الكارتيل من تحجيم أيّ نمو في صناعة المواد الصيدلانية عبر الضغط من أجل فرض ضرائب ورسوم عالية جدا على الآلات التي يتطلبها تصنيع الأدوية و المواد الطبية والصيدلانية محليّاً ، وحاول الدكتور بيطار وضع سقف للأرباح، وتنويع أصناف الأدوية المستوردة، ودعم صناعة الأدوية والمواد الصيدلانية المحليّة. لكنّ الصيدليات والمستوردين اتّهموه بتدمير اقتصاد السوق الحر والتسبب في نقص الأدوية، وفي النهاية رفع الوزير بيطار بطاقته الحمراء في وجه الجميع في كانون الثاني عام 1971 وقدم استقالته من الحكومة ، بسبب قلة دعمه من زملائه في مجلس الوزراء ومن قبل مجلس النواب . وبالتالي خسر لبنان معركة هامة مع شركات ومستوردي ومافيات الدواء .
بشكل عام ، ارتبط عجزُ السلطة السياسية باستمرار منذ بداية عهد الاستقلال حتى الآن بتشويه الحقائق او اخفائها أو لفلفتها في ظل تكاذب هائل بين مكوناتها والعلاقات بين هذه المكونات ، وعلى سبيل المثال وليس الحصر ، لم يعرف اللبنانيون ، ماذا حصل في صفقة صواريخ «كروتال» للدفاع الجوي ولماذا لُفْلِفت في العام 1972 ، وقبلها ماهي الحسابات التي أدت الى «اتفاق القاهرة» عام 1969 وكيف وافق وصادق عليه مجلس الوزراء ومجلس النواب من دون ان يطلعا عليه وعلى محتواه ، وكيف انهارت الليرة اللبنانية في الثمانينيات من القرن الماضي ، وكيف أدخلت براميل النفايات السامة في أواخر الثمانينيات ، إضافة الى كل تداعيات كواليس الحرب الأهلية القذرة وتحالفات «أمراء الحرب وتجار الهيكل»، الذين اغتنوا من دماء الضحايا أو الشهداء . وهذا ما لنا عودة إليه .
( يتبع )