أقلام الثبات
تبدو الأيام والأسابيع المقبلة حارة جداً، في ما يخص الضغوط التي يتعرض لها لبنان واللبنانيون، لفرض المشيئة الأميركية والمصلحة "الإسرائيلية" عليهم، فما بين الترويج الرسمي اللبناني بأن الحل أصبح قاب قوسين أو أدنى، وبين حقيقة ما حمله الموفد الأميركي –"الإسرائيلي" عاموس هوكشتاين، من حلول وافكار، مسافة من التنازلات ليس سهلاً ولا متوقعاً قطعها، من دون دخان وحرائق تشغل العقول وتحرف الأنظار. فسمة هذه المرحلة هي التصعيد وعدم تقديم تنازلات في المشكلات ذات التأثير الكوني، من أوكرانيا شرقاً، إلى تايوان جنوباً، فإلى مفاوضات أميركا وإيران حول ملفها النووي؛ وصولاً إلى حقوق لبنان في مياهه البحرية وثروته النفطية، التي يطمع فيها العدو "الإسرائيلي" بدعم كامل من الإدارة الأميركية.
دائماً كان اللبنانيون يعيشون تحت ضغوطات الخارج والداخل، منذ أن أنشيء الكيان اللبناني ليكون نسخة ممسوخة عن الكيان "الإسرائيلي"، يؤدي أدواراً تتكامل مع دوره التخريبي في المنطقة؛ ويخدم مصلحة الكيان الصهيوني الدخيل وديمومته. ولإجل تحقيق تلك المصلحة جرى إفقار اللبنانيين وسرقة أموال خزينتهم ثم أموالهم المودعة في البنوك، بعد أن تم وعن قصد، إغراق لبنان بحوالى مائة مليار دولار من الديون. كما جرى تشويه وجه عاصمتهم وخصخصة وسطها التجاري، من القوى العربية والدولية ذاتها التي مولت الحرب الأهلية، التي اشعلها الإنعزاليون اللبنانيون المتصهينون عام 1975. ومن كثرة ما جرب الخارج وأتباعه في الداخل من أنواع الضغوط، باتت اللعبة مكشوفة ومملة رغم الآلام التي توقعها باللبنانيين.
جديد محطات هذه الضغوط وليس آخرها، كان دس بند في قرار التجديد لقوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) العاملة في الجنوب اللبناني، باعفاء تلك القوات من الزامية التنسيق مع الجيش اللبناني في كل اعمالها وتحركاتها العسكرية. والهدف الحقيقي، كما بينت التطورات اللاحقة التي حملتها إقتراحات هوكشتاين، هي البحر وليس البر. فالذي كتب ذلك النص، كما الذي سكت من المسؤولين اللبنانيين، على إقراره في مجلس الأمن الدولي، يعرفون أن لا قدرة للطوارىء في الظروف الحالية على الأقل، على تنفيذ ذلك القرار. لكن الهدف الحقيقي منه هو إعطاء دور لقوات "اليونيفيل" في البحر، بجعلها وصية على خط التفاهم الجاري التفاوض للوصول إليه، بين حدود لبنان البحرية والحدود الفلسطينية المحتلة. فيصبح تحرك المقاومة ضد المنصات "الإسرائيلية" في مواجهة القوات الدولية وليس "الإسرائيلية" وحدها.
هؤلاء، في الداخل والخارج، هم الذين واكبوا عودة هوكشتاين و"أفكاره"، بإعادة لعبتهم المكشوفة للضغط على اللبنانيين من خلال رفع سعر صرف الدولار الأميركي، ليقارب الأربعين الفاً، بما يعني القضاء النهائي على القيمة الشرائية لليرة اللبنانية؛ ولقدرة معظم اللبنانيين على تأمين أدنى مقومات العيش وضرورياته.
ومن الواضح، أن حكومة العدو "الإسرائيلي" تعمل من جهة على تاجيل أي اتفاق الى ما بعد إنتخاباتها المقبلة، ما لم تفرض شروطها ومطالبها. ومن جهة ثانية، هي أعلنت أنها ستبدأ في إستخراج الغاز من حقل "كاريش"، في الاسبوع الاول من تشرين الأول المقبل. فيصبح الضغط الدولاري الداخلي مقروناً بالضغط الخارجي، هو وسيلة الأميركي وأتباعه من حكام الفساد في تحالف زعماء الطوائف واصحاب المصارف في لبنان، لمنع المقاومة من القيام بدورها وتنفيذ تهديدها بمنع العدو من إستخراج الغاز طالما أن لبنان ممنوع من ذلك. والواضح أن الأميركي يخادع بالايحاء أنه يريد حلا قبل تشرين الاول، لأن من يريد حلاً مقبولاً لا يطالب لبنان بالتنازل عن حدوده الدولية المعترف بها، في نقطة رأس الناقورة وصخرتها الشهيرة. لكن الأميركي ومعه "الإسرائيلي" يدركان أن المسؤولين اللبنانيين يريدون الاستخراج والحصول على المال باي ثمن. وهو ما سيدفعهم لتقديم تنازلات كبيرة، فالذي أفقر اللبنانيين وسرق أموالهم وأذلهم أمام محطات المحروقات وعلى أبواب الأفران وفي عتمة غياب الكهرباء وتحت تسلط مافيا المولدات، لن يتوانى عن بيع أرضهم وثرواتهم وسيادتهم بأبخس الأثمان؛ وهو الذي يلعب ويتواطأ في تحريك سعر الدولار، طالما أن هدفه هو إستمرار زعامته وامساكه بالسلطة التي أتاحت له جني المال الحرام وتكديس الثروات. وأول الغيث كان التنازل المسبق عن الخط 29، الذي حدد خبراء الجيش أنه حدود لبنان البحرية الجنوبية.
أما ترويج البعض بأن الحل بات في متناول اليد، فهو خداع وإستسهال لحصول لبنان على حق إستخراج الغاز والنفط من البحر، بما يعني خروجه من أزمته المالية والإقتصادية الخانقة. ويتناسى أن إيصال لبنان إلى هذه الحالة كلف الأميركي وأتباعه "الإسرائيلي" وأنظمة النفط المطبعة معه، عشرات السنين من العمل المضني، بغرض إخضاع لبنان وفرض إلحاقه بمسيرة "الإستسلام" للأمر الواقع "الإسرائيلي"، التي تقودها المملكة السعودية في المنطقة.
تقضي المرحلة بضرب قوة لبنان لإستكمال مخطط إخضاعه وإلحاقه. وقوة لبنان هي ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة". الجيش شبه جائع ويتلقى هبات غذائية مخجلة من بعض الدول. وغادر كثير من عناصره صفوفه تحت وطأة هزالة الرواتب. وهو غير قادر على مواجهة العدو "الإسرائيلي" بخردة السلاح الأميركي التي يستعملها لفرض الأمن الداخلي. وهو ممنوع من إستعمالها ضد "الإسرائيلي". والمقاومة تتعرض لمحاولة جديدة لحصارها وتكبيل تحركها وخلق الفتن الداخلية لها. وكل تصريح ضدها وكل اشكال معها هو مدبر، لإرباكها ومنعها من مواجهة الأطماع "الإسرائيلية". والشعب يئن من حرمانه من كل الضروريات ومن الارتفاع المفتعل لسعر الدولار، الذي سيواصل إرتفاعه طالما أن هوكشتاين لم يفرض إملاءاته؛ وطالما أن أتباع الأميركي وصنائعه هم الحاكمون في لبنان.