أقلام الثبات
عاد سمير جعجع إلى لعبته العقيمة، التي لا طائل منها غير توتير الأجواء وافتعال الفتن واستدعاء التدخلات الخارجية. فبعد تعميمه إشاعة أن "جعجع مرشح طبيعي لرئاسة الجمهورية"، ها هو أحد عناصر حزبه، "القوات اللبنانية"، الوزير الأسبق ملحم رياشي، يعلن عن ترشح قائده لإنتخابات رئاسة الجمهورية، التي تنتهي مهلة إجرائها في 31 تشرين الأول المقبل. لكن جعجع لم ينجح يوماً في تحقيق وعوده وتمنياته الكثيرة، من مشروع التقسيم لإقامة لبنان صغير "من كفرشيما للمدفون"، إلى فتح مطار "حالات حتماً"؛ وصولاً إلى وعده بحلق شواربه إذا لم يتم إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد عام 2012. وها هي عشر سنوات قد مرت على ذلك الوعد ولم يسقط رئيس سورية؛ ولم ينفذ جعجع وعده. ولعل جعجع لم يعد لديه ما يعد به، أذا لم يصل إلى موقع رئاسة الجمهورية.
وبعيدا عن أحلام سمير جعجع التي لم ينجح في تحقيق أي منها، سوى عمليات القتل والإغتيال، التي أدخلته السجن بحكم مؤبد، خرج منه بعفو نيابي- رئاسي وليس بحكم براءة، تبقى تمنيات ومطالب جعجع نزير شؤم على اللبنانيين، لأنها تعني في ما خصّ الإنتخابات الرئاسية المقبلة، أنها لن تمر على خير، كيف لا وهي شهدت حروباً وخضات طوال المراحل السابقة، فمن خصوصيات الرئاسة اللبنانية أن كل لبناني ماروني يعتبر نفسه "مرشحاً طبيعياً" لهذا المنصب، فيبدأ بحملات شيطنة وتخوين ضد من يرى فيه خصماً قد يسبقه إلى هذا الموقع. فكيف الحال إذا كان هذا "المرشح الطبيعي" غير طبيعي ومدان بجرائم قتل وإغتيالات؛ وقائد ميليشيا مدعوماً من أميركا والمملكة السعودية و"إسرائيل". وهذا هو حال سمير جعجع.
ينطلق جعجع من مخطط مولته المملكة السعودية بشكل علني، للحصول على أكبر كتلة نيابية مسيحية، في الإنتخابات النيابية الأخيرة، لكنه فشل في تحقيق مرامي مموليه لفرضه رئيساً، بحجة أنه المرشح الأكثر تمثيلاً. فكتلته النيابية على الرغم من تطويبه من السعودية "زعيماً" على المسلمين السنّة، بعد منع المملكة الزعيم السني الأول سعد الحريري من خوض تلك الإنتخابات، كان نصيب كتلة جعجع "تكتل الجمهورية القوية" 19 نائباً، بينهم 14 قواتياً، بينما حصلت كتلة خصمه جبران باسيل " تكتل لبنان القوي" على 21 نائياً، بينهم 17 ملتزماً بالتيار العوني.
والأهم في هذا السباق، أن على جعجع، فيما لو قيض له أن يحقق أكثرية تمثيل مسيحية، أن يخوض حروباً لا تنته للوصول إلى قصر بعبدا، إذ عليه تخطي دماء ضحاياه وما يمثل ذويهم من مواقع قوة ونفوذ في البلد. فكيف يكون جعجع رئيساً للبنان وهو قاتل أبرز رؤساء الحكومات وزعيم طرابلس رشيد كرامي. وقاتل الوزير والنائب السابق طوني فرنجية، إبن رئيس الجمهورية الأسبق سليمان فرنجية ووالد الزعيم الزغرتاوي الحالي، المرشح لرئاسة الجمهورية الوزير والنائب السابق سليمان فرنجية. كما أن جعجع المتهم والمدان بهذه الجرائم، مدان بقتل الشخصية البارزة داني شمعون، رئيس حزب "الوطنيون الأحرار" وابن الرئيس الأسبق كميل شمعون. وهو متهم بعشرات عمليات القتل والإغتيال والتصفيات بحق ضباط وجنود من الجيش اللبناني ومن رفاقه في "حزب القوات". أي أن جعجع مارس طوال أكثر من ثلاثة عقود في تزعمه ميليشيا "القوات اللبنانية"، عمليات قتل ممنهج وتصفية لكل من وقف في وجه طموحه السياسي، ليصبح زعيماً على الموارنة والمسيحيين عموماً. وهذا النهج تعلمه جعجع من قائده ورمزه بشير الجميل، الذي دفعه سعيه للوصول إلى إلى رئاسة الجمهورية، إلى إشعال حرب أهلية تحت شعار تحرير لبنان من السوريين والفلسطينيين. لكن هذا التحرير المزعوم، إستند إلى تحالف بين حزب الجميل (الكتائب) وبين العدو الصهيوني، الذي اجتاح لبنان عام 1982، تحت الشعارات الكتائبية ذاتها وهي محاربة المقاومة الفلسطينية والأحزاب اللبنانية المتحالفة معها. لكن الذي حصل أن الدبابات "الإسرائيلية" تولت حراسة عملية إنتخاب بشير في المدرسة الحربية، في الفياضية. وكان وجودها العامل الأول في هذا الإنتخاب. لكن كل تلك الخيانات لم تنفع بشير، إذ أقدم شاب وطني على إغتياله بتفجير مكتبه، قبل أن يتم تنصيبه رئيساً. وبعد إغتيال بشير، إنتخب شقيقه أمين خلفاً له، فحاول إكمال مشروع شقيقه بإبرام إتفاق 17 أيار مع العدو الصهيوني، مما أشعل حرباً داخلية لم تهدأ إلا بإنتهاء عهده، تخللها إستدعاؤه للقوات المتعددة الجنسية. وكان أبرزها قوات "المارينز" الأميركية وقوات فرنسية، ما لبثت أن خرجت بشكل مذل من لبنان، بعدما تعرضت مراكز قيادتها للتفجير بواسطة إستشهاديين، أوقعوا في صفوفها مئات القتلى الجرحى.
والبارز في مخطط جعجع الرئاسي، أن مؤيديه من عناصر القوات ومسؤوليهم، باتوا يتحدثون علناً عن التوجه للإستقواء بتدخل عسكري خارجي يشكل حماية لتنفيذ مشروع لتقسيم لبنان وفدرلته. في إبتزاز فاشل أيضاً للبنانيين، فلو كان مشروع الفدرلة قابلا للحياة لما إبتدعت فكرة "لبنان الكبير"؛ ولاكتفى مؤسسوا الكيان اللبناني بلبنان المتصرفية على جزء من جبل لبنان. لكن جعجع ومؤيدوه إعتادوا السير في الحروب والمشاريع الفاشلة.