أقلام الثبات
تخوض الولايات المتحدة الأميركية وتابعيها في المنطقة، خصوصاً "إسرائيل" والمملكة السعودية، من قلب بيروت، معركة الحاق لبنان بمشروع دمج الكيان "الإسرائيلي" بمحيطه العربي، التي تشهد تسارعاً على صعيد مجلس التعاون الخليجي، مرة غير بعيدة تحت عنوان "اتفاقات ابراهام"؛ ومرة جديدة تحت شعار توحيد قوى الدفاع الجوي لتسع دول عربية مع كيان العدو، لطمانة هذا العدو وباقي الأنظمة المحمية من قبل القوى الأميركية؛ ولتغطية الفراغ الذي سيحدث، بعد إنشغال الولايات المتحدة الأميركية بصراعاتها مع روسيا في أوكرانيا وغيرها، أو مع الصين، نتيجة التنافس الأميركي-الصيني في بسط النفوذ في بحر الصين.
يريد جماعة أميركا والسعودية في لبنان، ضمه إلى جوقة الراكعين أمام الإملاءات الأميركية والأطماع "الإسرائيلية". ويريدون منه التسليم بما يريده العدو "الإسرائيلي"، من توسع ووضع اليد داخل المياه اللبنانية، ليستولي على ما يشاء من نفط وغاز. فعند أبواق أميركا و"إسرائيل" والسعودية في لبنان، يتقدم إرضاء الأميركي على مصالح لبنان وحقوقه. ولذلك إستنفروا أبواقهم وشتائمهم وأكاذيبهم، للتحريض على كلام أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله، الذي تمسك بحق لبنان في مياهه وبما تضمه من نفط وغاز. ولفت إلى أن بدء كيان العدو باستخراج الغاز من الحقول المشتركة، الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلة، يقابله منع أميركي للبنان من التنقيب ومن إستخراج النفط والغاز، الذي يحتاجه لبنان للخروج من أزمته المالية والإقتصادية الخانقة. واعتبر نصرالله أن التهديد بالحرب بل حتى الذهاب إلى الحرب، أشرف بكثير من مسار الانهيار الذي يفاقم معاناة اللبنانيين. مضيفاً: "سجلوا المعادلة الجديدة: كاريش وما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش". وتابع: "إذا توصلتم إلى معادلة أن لبنان ممنوع أن يستنقذ حاله بحقه الطبيعي من الغاز والنفط، فلن يستطيع أحد أن يستخرج غازاً ونفطاً. ولن يستطيع أحد أن يبيع غازاً ونفطاً وأياً تكن العواقب".
جاء ذلك، بعد تسارع التطورات المرتبطة بملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، إثر وصول سفينة إنتاج وتخزين إلى مقربة من حقل "كاريش"، الذي يعتبره لبنان واقعاً في منطقة متنازع عليها، تمهيداً لبدء العدو "الإسرائيلي" استخراج الغاز منه، بينما لم تصل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، بوساطة أميركية إلى أي نتيجة حتى الآن. فكان أن أرسل حزب الله ثلاث طائرات مسيرة، كرسالة تحذيرية، حلقت فوق حقل "كاريش"، قبل أن يسقطها جيش العدو بصعوبة.
هذا الموقف لحزب الله، الذي ينسف المناخ الإستسلامي السعودي والخليجي من أساسه؛ ويشوش على زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لكيان العدو وللمملكة السعودية، أفقد جماعة التطبيع في لبنان صوابهم، فانبروا يحذرون ويتباكون خوفاً من "حرب يشعلها حزب الله". لكنهم لم يكلفوا أنفسهم شرح بدائلهم وخططهم للحفاظ على حقوق لبنان السيادية في مياهه ونفطه وغازه، غير الإستسلام لمشيئة العدو.
وكيف لا يثور جماعة التطبيع في بيروت ضد موقف حزب الله، فيما ممولتهم السعودية تسلف بايدن، قبل أن ينهي لقاءاته مع مسؤولي العدو في فلسطين المحتلة، بقرارها فتح الاجواء السعودية أمام الطيران "الاسرائيلي" ، هذا القرار الذي رحب به بايدن فوراً. واعتبره مستشاره للامن القومي، جيك سوليفان: "يمهد الطريق لمنطقة شرق أوسط أكثر تكاملاً واستقراراً وأماناً". وأنه: "قرار حيوي لأمن وازدهار الولايات المتحدة والشعب الأميركي وأمن إسرائيل وازدهارها".
ويبدو واضحاً، أن الإدارة الأميركية ومعها المملكة السعودية والإمارات تركز هذه الأيام، على محاولة الغاء كل مفاعيل الصراع العربي - "الإسرائيلي"، بل وحتى الصراع الفلسطيني - "الإسرائيلي"، عبر إقامة اتفاقات وتحالفات تدمج الكيان الصهيوني بالمنطقة. وهذا الأمر هو عنصر أساسي في زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لفلسطين المحتلة والسعودية، إضافة إلى إهتمامه بتأمين البدائل الخليجية للنفط والغاز الروسي، الذي تعاني دول أوروبا الغربية من تراجع كمياته، إثر نشوب الحرب بين روسيا وأوكرنيا، التي ينخرط فيها الغرب وحلف "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة بشكل قوي.
لكن جماعة التطبيع في لبنان ومنهم جماعة "قوة لبنان في ضعفه"؛ وكذلك جماعة الحياد وأمثالهم، ممن يعتبرون العدو "جاراً" لهم وهو الذي يحتل فلسطين وأراض لبنانية وأخرى لدول عربية مجاورة، لهم رأي آخر. لو كانوا في دولة تحترم نفسها لحوكموا عليه بتهمة الخيانة العظمى. فهؤلاء لا يكفيهم أن الدولة التي أقاموها، تعيش على التسول وعلى الإعانات وعلى إستثمار مصائب ومشاكل الجوار العربي، منذ أن أعلن المستعمر الفرنسي "دولة لبنان الكبير". هذا اللبنان الفريد من نوعه، ليس بالأغاني الكاذبة التي تشيد بهوائه ومياهه التي أفسدها غياب التخطيط، بل بنظامه القائم على الطائفية والمحاصصة والزبائية، التي يديرها تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الذي اوصل اللبنانيين الى ادنى درك يمكن ان يتخيلوه، حيث تلاقي وتكامل فساد الحكام مع العقوبات الأميركية، في إفقار اللبنانيين وتجويعهم. وهذا الأمر وصل إلى حد تحويل آخر مؤسستين قائمتين في الدولة، هما الجيش وقوى الأمن، إلى مؤسسات تعيش على الهبات الخارجية المالية والعينية والغذائية والتسليحية. في تخل عن الكرامة الوطنية، نادراً ما رضي به شعب ودولة.
يرفض جماعة التطبيع خطاب المقاومة في تصديها لردع أطماع العدو. ويحنون إلى زمن كان العدو "الإسرائيلي" يسخر فيه من لبنان؛ ويعتبر أن فرقة موسيقى من الجيش "الإسرائيلي" تكفي لإحتلاله. ويحنون إلى زمن تجاهلوا فيه بكل وقاحة، إحتلال العدو لثلاث عشرة قرية لبنانية، بما فيها القرى السبع. وهم أنفسهم وقفوا خلال عدوان تموز 2006 لينصروا العدو ويقولوا من على شاشات التلفزة أن حزب الله هو الذي إعتدى على "إسرائيل". ويمنون النفس بفرض مقترحات الوسيط "الإسرائيلي" – الأميركي عاموس هوكشتاين ومن سبقه من موفدين اميركيين، بأن يكون التنقيب عن الغاز "إسرائيلي" مقابل أن يحصل لبنان على جزء من العائدات، فهذا أقصر الطرق إلى التطبيع والتعامل مع العدو، بما يحول الصراع معه إلى تحالف، يجمع بين الذئب والحمل وبين القوي المدجج بالسلاح، مع الجبان الخنوع الذي تعود على المذلة مقابل العيش على فتات موائد الأقوياء والأغنياء. لكن عصر المقاومة يختلف تماماً عن عصر ما قبلها. وهذه مشكلة جماعة التطبيع.