أقلام الثبات
كشفت الإنتخابات النيابية التي جرت مؤخراً، عقم ما يسمى "الديموقراطية اللبنانية"؛ وأنها ليست أكثر من كذبة يرددها كل أربع سنوات، ببغاوات وأصحاب مصالح وانتهازيون ووصوليون، يتبعون أوامر الخارج ويتلقون دعمه المالي والسياسي، ويأتمرون بأمر سفرائه المعتمدين، علناً من دون خجل أو حياء. بل تراهم بكل وقاحة يتحدثون عن السيادة وينطقون "باسم الشعب اللبناني"، متناسين أنهم بذلك يفضحون تركيبة هذا النظام ويسرعون في موته.
ويحفر "أهل النظام" اللبناني، أي اصحاب الحظوة والإمتيازات فيه، قبره في كل خطوة يخطونها، بعد أن تخطاه الزمن وبات عبئا على المشاركين فيه. لكن الكارثة أن هؤلاء لا يريدون طي حياة هذا النظام وتطويره، قبل أن تنطوي معه حياة اللبنانيين، إما قتلاً بحروب القبائل والطوائف؛ واما تجويعاً بفعل الإستغلال والجشع وحرب الإفقار التي تشن عليهم من الخارج والداخل؛ وإما تهجيراً بدفعهم للهروب نحو المجهول، في بلاد الله الواسعة، بحثاً عن فرص عمل ولقمة عيش وأمن وأمان، لم يوفرها لهم هذا النظام المرتبط بهذا "الكيان"، منذ أن صنعته فرنسا ليكون مشروعاً مشابهاً للمشروع "الإسرائيلي"، الذي إغتصب فلسطين ونكل باهلها وشردهم.
ينقل عن الرئيس سليم الحص قوله أن "في لبنان حرية، لكن لا توجد ديموقراطية". في اختصار لأزمة الحكم في لبنان، فأنت تستطيع أن تقول ما تشاء، خصوصاً إذا كنت متحصناً خلف إنتماء طائفي أو مناطقي أو طبقي. لكنك لا تستطيع تداول السلطة مع من يمسك بها، أو إحداث تغيير جدي وفعلي في تركيبة النظام، بما يلبي حاجات الناس ومطالبهم. وهذا ما أشعل حروباً وصراعات شهدها لبنان، منذ أن صنع الإنتداب الفرنسي "دولة لبنان الكبير".
هل يعقل أن نرى في هذه الديموقراطية المسخ، أن نائباً يفوز بعشرات آلاف الأصوات التفضيلية، بينما يفوز آخر ب76 صوتاً أو ب300 صوت وحتى بأقل من ألف صوت؟ والإثنان يجلسان على قدم المساواة في مجلس النواب. وهل يعقل أن الحاصل الإنتخابي في دائرة معينة، هو بضعة آلاف من الأصوات، فيما هو في دائرة ثانية عشرات آلاف الأصوات؟ وأي ديموقراطية هذه التي تتيح لمواطن أن يقترع لعشرة أو لثلاثة عشر مرشحاً، فيما تحصر حق مواطن آخر بإنتخاب نائبين أو ثلاثة؟ وأي مجلس نواب هذا الذي يدعي تمثيل الشعب، النائب فيه يمثل قضاء واحداً، فيما يمثل نائب آخر مجموعة أقضية تعادل محافظة، حسب التقسيم الإداري المعمول به.
هي ديموقراطية عقيمة، يحدد فيها قانون الإنتخابات نتائجها مسبقاً قبل إجرائها. والأسوأ في هذا الواقع أن المستفيد من هذه الأعراف، التي تتغلب على بنود الدستور، لا يتواضع في تلقف نتائجها، بل تراه بكل وقاحة يريد فرض شواذاتها على الاخرين. فهل يعترف أهل النظام واركانه، لماذا يمنعون إعتماد صيغة الإستفتاء لتحديد مواقف اللبنانيين من القضايا المصيرية. وإلا ما معنى أن يعتبر احدهم أنه أصبح قائد الأكثرية النيابية، بأقل من مائتي الف صوت نالها مرشحوه، فيما يحرّم على من إقترع له حوالى أربعمائة الف صوت، أن يكون صاحب قرار في تحديد سياسة الدولة وخياراتها؟ وهل يعلم اللبنانيون أن خطاب المساواة ووقف العد يشمل السكوت عن التمييز الفاقع، بحصول طائفة على 34 نائباً وهي الطائفة الثالثة عددياً، فيما حصة كل من الطائفة الأولى والثانية عدديا هي 27 نائباً، في حين أن السنوات الأخيرة شهدت إرتفاع الأصوات مطالبة باستعادة حقوق المسيحيين والموارنة خصوصاً. فهل الحل ببقاء هذا النظام الطائفي، الذي يهدد اللبنانيين بحرب أهلية كلما أراد أحد الأطراف تحسين أوضاعه، أو تكريس توازنات جديدة.
صحيح أن القوى السياسية المسيطرة على مجلس النواب، هي التي تفصل قانون الإنتخاب على قياسها، لكنها ليست حرة في تخطي الأعراف والخطوط الحمر المرسومة لبنيان الدولة، بما يقتل الديموقراطية ويجعلها مجرد فولكلور. وهذه الإنتخابات، كما غيرها من محطات إنتاج السلطة في لبنان، تفتح العيون على بؤس هذا النظام ولا عدالة أسسه وتركيبته، من دون أن يكون ذلك دعوة لإستبدال تسلط طائفة بتسلط طائفة أخرى، بل أن البديل الذي سيفرض نفسه بقوة نزوع الناس إلى التغيير والعدالة والمساواة، ليحل نظام مواطنة يعامل اللبنانيين كمواطنين أسوياء وليس رعايا وأبناء طوائف وقبائل ومناطق. ويترك للناس حريتها الدينية في منازلها ومعابدها، بعيدا عن التجارة بالاديان واعتبارها وسيلة للوصول والتسلق، مما ينتج مواطنين بعضهم بسمنة والآخرون بزيت.