أقلام الثبات
يصدمك أرباب الزعامة والقيادة والسلطة والحكم والنفوذ، بردهم كلما طالبهم أحد مواطنيهم بموقف جدي، من الذين يقتلون الناس مائة مرة في اليوم، تجويعاً وتفقيراً وإذلالاً وقهراً، بأنهم يخشون إدخال البلاد في حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس. وتراهم يبالغون في إبداء الحرص على "الوطن" و"السلم الأهلي"، متجاهلين أن المواطن هو الأساس وأن لا وطن من دون مواطن. وهذا المواطن على شفا أن يصبح في خبر كان.
طبعاً لسنا من دعاة الحرب الأهلية ولا من تجارها والمستفيدين منها، بل كنّا وما نزال من ضحاياها، في كل مراحلها، فلبنان ما أن يخرج من حرب أهلية حتى يدخل في جولة ثانية وثالثة ورابعة، تحت شعارات مختلفة تدغدغ عواطف الجمهور من جهة؛ لكنها في الواقع تحاكي وتتماهى مع مصالح الذين يشعلونها، من أصحاب الشعارات الطنانة الرنانة؛ ومن المتاجرين بالسيادة والمستفيدين من جعالات النظام ومحاصصاته وزبائنيته.
لا يختلف إثنان على أن كل ما جرى خلال العقود الماضية، كان بشكل أو بآخر حروباً أهلية. ثورة 1958 كانت حرباً أهلية. وحرب السنتين، التي طالت لأكثر من خمس عشرة سنة (1975-1992) كانت حرباً أهلية. حتى أن بعض المشاكل الصغيرة التي عاشها لبنان منذ إعلان لبنان الكبير وحتى اليوم، هي بشكل أو بآخر كانت حروب أهلية، فكيف لا تصنف الأحداث باعتبارها حروب اهلية، في بلد صنع على التمييز والعنصرية، لوظيفة تخدم صانعيه ولا علاقة لها بمصالح شعبه وبتوقه للحياة، بدليل أن اللبنانيين، منذ أن بدأت فكرة الكيان تسقط عليهم ببراشوت مشاريع تفتيت وتقسيم المنطقة العربية والهيمنة عليها، يهاجرون هرباً من هذه "الجنة" طلباً للقمة العيش في بلاد الله الواسعة، لا فرق إن كانت في الأميركيتين أو أفريقيا، أو اي مكان آخر يستقبلهم ويحضنهم ويؤمن مستقبل فلذات أكبادهم.
حتى الحروب التي شنها العدو "الإسرائيلي" في مراحل شتى، كانت في بعض مظاهرها حروباً أهلية، وقف فيها بعض اللبنانيين إلى جانب العدو، ضد مواطنهم وشريكهم في الوطن.
واليوم يئن اللبنانيون ويعانون من حرب من نوع جديد، حرب تعمل على إخضاعهم للمشروع الصهيوني، الذي أنجز إخضاع معظم حكومات العرب. وهذه الحرب التي تجري تحت غطاء العقوبات الأميركية، ما كان لفصولها أن تنفذ إلا على أيدي لبنانيين، يعملون في خدمة الأميركي والصهيوني ويحققون اهدافهم.
هي حرب يشنها تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، الذين سرقوا خزينة الدولة اللبنانية ثم تحولوا نحو الإستدانة؛ وبعدها حولوا الديون إلى دين بالعملات الصعبة. وعندما أفرغوا الخزينة من أموالها، سرقوا اموال المودعين وهربوهها إلى الخارج، محتمين بالأميركي الذي طالبهم بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، لتمكين حصاره لكل من لا يخضع لإملاءاته، فاستغلوا الطلب الأميركي وحولوه إلى صفقة لصالح تكديس ثرواتهم في الخارج، تحت أعين الدول التي تدعي الشفافية.
هي حرب يشارك فيها كل من تورط في الفساد، أو يحمي الفاسدين. أو يضع يده في أيديهم.
هي حرب يشنها على اللبنانيين كل من يتمسك بلبنان المزرعة، الموزعة محاصصة على زعماء الطوائف؛ والذي يرفض تحويل لبنان إلى وطن يحضن شعبه، بدلا من أن يكون منبت مهاجرين لا تتوقف قوافلهم عن المغادرة، ولو بخوض البحر الذي يبتلع منهم العشرات في كل مرة.
هي حرب أهلية شنها ويشنها على اللبنانيين، كل من فكر وخطط وعمل على تحويل لبنان إلى شركة مساهمة، يحكمها ويديرها رجل أعمال يخدم الخارج. وعندما فشل في حصاد مردودها السياسي قتله مشغلوه، لينتقلوا بلبنان إلى حرب أهلية أخرى، تحت تسمية 8 و14 آذار، بكل الفتن والإشكالات التي رافقت ونتجت عن هذا المسمى الجديد.
وهي حرب يشنها أصحاب حرب البسوس الجارية على "أرض" عقول وأدمغة الناس، لشدها في هذا الإتجاه، أو لجذبها في الإتجاه المعاكس، مستهلكة أعصاب الناس وصحتها وسلامة إدراكها؟
فهل هناك من ينقذ اللبنانيين، بشن حرب مضادة تحميهم من أصحاب مشاريع الحروب الدائمة، فتكون حرباً لمرة واحدة دفاعاً عن اللبنانيين، بدلآ من أن يكونوا حطباً لها لغايات بعيدة عنهم.