إضراب الكويتيين البدون.. هل يحيي قضيتهم المنسيّة؟

السبت 09 نيسان , 2022 10:01 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

في مراجعة مفهوم "الهوية" عند رائد السوسيولوجيا الفيلسوف يورغن هابرماس، نبحر عميقاً في الأنواع التي قررها هابرماس وهو يدرس حال المجتمعات ذات المكونات المختلفة، ومنها المكونات الأضعف في المجتمع، أو التي تسمى المجتمعات ذات المكونات المحددة. 

في معالجتي هذه، سأنحو إلى "الهوية التشاركية" لهذا الفيلسوف الجدلي، بوصفها نموذجاً يسعى عدد من نشطاء البدون إلى أن يكرسوها، من دون أن يقصدوا -ربما- التأسيس السيسيولوجي لها، لكنها -أي الهوية التشاركية- نوع من أنواع الميول الفطرية، إذا ما أبعدت السياسة وقذاراتها عن حق الإنسان بالعيش والتمتع بحقوقه الأساسية.

في هذا الإطار تحديداً، تعود صرخة البدون، وهذه المرة بسعي ثلة من الناشطين إلى ترسيخ "الهوية التشاركية" من خلال لفت نظر العالم إلى قضيتهم، عبر الإضراب المفتوح عن الطعام، والمطالبة بجعل قضيتهم أولوية عند الحكومة الكويتية التي تتجاهل معاناتهم المتشعبة وحالات الانتحار المتعددة والنماذج التي يندى لها جبين الإنسانية، فضلاً عن تجاهل إضرابهم الحالي، رغم مرور أكثر من 10 أيام عليه، في ظل جو لاهب.

منذ 28 من مارس/آذار الماضي، تجمع عدد من الكويتيين البدون في ساحة الصليبية، ليعلنوا أن إضرابهم عن الطعام جاء ليضع حداً من حدين؛ إما حد للاستهتار الذي تمارسه الحكومة تجاه قضيتهم وما تنطوي عليه من معاناة، وإما حد لحياة لم يعد لها حضن وطن يلمهم من ويلات السجن الكبير الذي يعيشون في كنفه، فيتسرب منه شبابه انتحاراً، أو ينجو من الغرق فيه من يتسلل الحدود هرباً من جحيم وطن إلى ملاذ الغربة. لسان حال المعتصمين: إما حل شامل، وإما قبر نجد فيه ما يروي ظمأ الفطرة للاستقرار.

أيام مضت، ولا يزال الإضراب قائماً حتى كتابة هذه المقالة. أُغمي على أحد المضربين. وحين نقل إلى المستشفى وعولج، عاد ليكمل إضرابه، وسط صمت مطبق ومتعمد من الحكومة، الأمر الذي يدفع البلاد إلى ساحة المجهول، لكن قصة البدون أوسع من هذا الإضراب، وأعمق من قضية أفراد، وأشمل من عينات إنسانية معدودة، فحين يتفاقم تعمد إقصاء مكوّن اجتماعي، ستكون أمام صنع قنبلة موقوته لا تحتاج الكويت إلى مثلها، وهي التي تملك خزينة تكفي لاحتواء البدون، ولو صاروا 4 أضعاف.

الجهاز المركزي.. رأس الحربة

يشعر البدون، علاوة على مرارة ظروفهم وضيق خياراتهم، بأنّ الجهاز المركزي للإحصاء هو مؤسسة صممت للتضييق عليهم. ربما لا نريد تصديق ذلك، أو نعتبره شيئاً من المبالغة أو ضرباً من التحليل، لكنه للأسف واقع تثبته المحطات المختلفة والتصريحات الصريحة، وتوثقه الخطوات التي يقوم بها الجهاز نفسه ضد الكويتيين البدون.

آخر خطوة اتخذها الجهاز المذكور هو إرساله كتاباً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، يطلب منها إصدار تعميم للجان الخيرية بعدم صرف الزكاة لمن أسماهم "المقيمين غير القانونيين"، وهم الكويتيون البدون، إلا إذا كانوا يحملون بطاقة الجهاز المركزي، وعلى أن تكون سارية الصلاحية. الوزارة أصدرت التعميم بتاريخ 29 مارس/آذار، أي بعد يوم من الإضراب.

لماذا هذا التصعيد من جانب الجهاز المركزي ورئيسه صالح الفضالة الذي لا يوجد له تصريح واحد إيجابي بشأن هذه الفئة المنكوبة؟

تجاهل البدون.. بين المصلحة والحقوق

في إعلانهم الاعتصام، نشر القائمون على تدشين هذه المرحلة الجديدة من طريقة المواجهة مع حكومة الكويت أن أهداف اعتصامهم وإضرابهم عن الطعام، هي: 

1-    تغيير سياسة الحكومة الكويتية حيالهم ومنحهم الجنسية.

2-   منع قطع أرزاقهم بحجة عدم قانونية الإقامة، ومحاسبة إهانة كرامتهم في الخدمات.

3-   منحهم الحقوق الأساسية وحق المواطنة الكاملة.

هنا، نستدعي مفهوم "الهوية التشاركية" ليورغن هابرماس، الذي يرى أن الهوية تصنع السياسة، وليس العكس، بمعنى أن المكونات التي تتشارك في هوية المجتمع هي التي ترسم السياسة. ومن خلال السياسة، تحفظ حقوق كل تلك المكونات، ولا ينقص منها شيء. 

هذا ما يطالب به البدون، وإن كانت طلباتهم تتمثل بالحد الأدنى من المعنى المقصود بقول هابرماس، فالهوية هنا لم تخدم الحاجة الإنسانية الأساسية، فهم يعانون حد الانتحار من حرمانهم من كل خدمات الوطن الغني، الذي تعجز ماليته عن احتضان 200 ألف مواطن خدموا الوطن على كل المستويات، وقدموا شهداء في حرب التحرير، ورفدوا المجالات المتنوعة بطاقات كبيرة وخدمات جليلة.

أما لوبي التجار النافذ في الأسرة الحاكمة ومجلس الأمة وغرفة التجارة والجهاز المركزي للإحصاء، فهم يقدمون مقاربة متوحشة للهوية، إذ يجذرون مفهوم تسهيل إلقاء هذه الفئة في سلال هويات العالم، ويشجعون على تهجيرهم، ليتشارك العالم إجراءات لوبي متوحش نافذ يزاوج بين أسوأ ما تخلفه السياسة مع ما يلتهمه الاقتصاد المفترس من حقوق طبيعية، ليولد حينها جنين مشوه اسمه الطبقية العمياء.

حين قرر محمد البرغش ورفاقه الاعتصام في ساحة الصليبية، وبشكل مفتوح، فإنهم أدركوا أنهم أمام تحدٍ كبير جداً، وتواجههم عدة سيناريوهات، منها استخدام القوة لتفريقهم، أو استمرار تجاهل الجهات الرسمية لمطالبهم، إلى أن يتعب المضربون ومن يزورهم كل ليلة تضامناً معهم، من شخصيات ووجهاء ومواطنين عاديين.

ويعتقد عدد من المتابعين أن تحصين هذا الإضراب من أي سيناريو قد يجهض أهداف القائمين عليه ومؤيديه، يكمن في التوجه إلى الإعلام العالمي، عبر توثيق يوميات الإضراب ودعوة الصحافيين والقنوات وإجراء المقابلات وكتابة التقارير والتقاط الصور وغيرها، ما يجذر المطالبات، ويوسع دائرة التضامن، ويزيد حكماً الضغط على الجهات الرسمية.

كل ما في الأمر أن البدون يحتاجون إلى التفكير في كيفية الضغط على الحكومة الكويتية وإحراج الجهات الرسمية الأخرى عبر آليات ضغط حقيقية. وقد جاء هذا الإضراب ليدشن مرحلة جديدة تحتاج إلى تحصين من اغتيالها أو كبت صرختها أو التحكم في درجة رفع صوتها. 

طبعاً، هذه الخطوة غير كافية، إلا إذا سُيّجت بعدد من الخطوات التي تصب في مصب الاحتجاج المدني السلمي الذي تجيزه القوانين الدولية وترعاه المنظمات الحقوقية، لأن لوبي التجار قوي جداً، ويستخدم أدوات مختلفة لطمس قضية البدون.

في مقال سابق، كتبت عن لوبي التجار الذي يؤيد الإجهاز على هذا المكون الاجتماعي الوازن من دون رحمة. هذا اللوبي يزداد تعقيداً كلما مر الوقت، فتشعباته تحصنه من الانهيار، وتجذر سطوته على المؤسسات، لكن مواجهته ليست مستحيلة، وهزيمته في قضية البدون ممكنة جداً، وإن كانت صعبة.

اللافت، بحسب يورغن هابرماس، أن الدين هو أحد أسس الهوية التقليدية التي تجمع حقوق معتنقيه في صورة واضحة. ورغم أن المجتمع المحافظ في الكويت يوطّن التشاركية من منطلق الدين والعادات المجتمعية المتأصلة، فإن هذا لم يشفع لفئة الكويتيين البدون بالحصول على حقوقهم، رغم ما يحثه الدين المشترك على التراحم، لكن السياسة تقدم دائماً مصالح الفئات النافذة على مصالح الشأن العام.

 

عباس الجمري ـ الميادين

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل