أقلام الثبات
يبدو اللبنانيون وكأنهم دخلوا في تيه لا مخرج قريباً منه، إذ لا تلوح في أفقهم أي تباشير حل لأزمتهم المالية-الإقتصادية؛ وليس من السهل إيجاد نقطة تلاق لتناقض خياراتهم السياسية، التي يتم تقاذف شعاراتها على أبواب الإنتخابات النيابية في الشهر المقبل. فيما تتركز هموم زعمائهم من السياسيين وقادة الطوائف، على هندسة بقائهم في مواقعهم وأدوارهم، من خلال ترتيب وضمان فوزهم مع أتباعهم في تلك الإنتخابات.
وتتضارب مشاعر اللبنانيين تجاه الإنتخابات المقبلة، التي وضعتهم بين فكي كماشة، بين إعادة تجربة المجرب، الذي أوصل البلاد إلى قعر لا طاقة للبنانيين على تحمله. وبين شعورهم بالواجب تجاه تجديد حياة مجلسهم النيابي، الذي فشل في حل أي من المشكلات الصعبة التي تمسك بخناقهم، بل أن القوى السياسية التي شكلته طوال العقود السابقة، تعودت على صنع المشكلات والترسمل عليها، إستغلالاً للزبائنية التي تربط المواطن بالمسؤول. هذا من جهة، فيما لا يجد المواطن من جهة أخرى، بين القوى التي تدعي المعارضة، خصوصاً الجمعيات التجارية التي تدعي المدنية، ما يلبي طموحاته للتغيير، فهؤلاء "المجددون" كشفوا عن حقيقتهم باعتبارهم نسخة اكثر سوءاً وجشعاً من طاقم الفساد الحاكم.
على الصعيد الإقتصادي –المالي، تراوح الأزمة في دائرة إنقاذ النظام وأهله. ولا يلمس اللبنانيون أي جدية في تعاطي الجهات المسؤولة مع مطلبهم الطبيعي والمحق؛ وهو إستعادة أموالهم المودعة لدى المصارف. مع ما ستحدثه إعادة مليارات الدولارات التي هربت إلى الخارج، من تحريك لعجلة الإقتصاد ووقف مسيرة تدفيع الفقراء وأصحاب الدخل المحدود، ثمن السياسات المالية والرهانات السياسية المخربة والمقصودة، التي اعتمدت خلال العقود الماضية؛ والتي أفلست البلد وجعلته فريسة سهلة للمطالب والإملاءات الأميركية و"الإسرائيلية". وكذلك فريسة لشروط صندوق النقد الدولي وسياساته، في رهن البلاد التي تلجأ إليه، لخيارات إقتصادية وسياسية تقررها الدول التي تقف خلف سياسات ذلك الصندوق؛ باعتبارها مصدر الأموال التي يقرضها للدول المتعثرة؛ والتي يتفق كل المتابعين والمحللين، بأنها لن تكون الحل الناجع والكافي لأزمات اللبنانيين.
كما تظهر المراوحة، في فشل المشرعين عن سن قوانين تحاسب الذين هدروا وسرقوا أموال اللبنانيين؛ وفي مقدمهم حاكم المصرف المركزي، الذي فتحت محاكم في أكثر من بلد أوروبي ملفات فساده مع شقيقه، كمدخل لفتح ملف الفساد اللبناني برمته، فيما يتمسك شركاؤه من زعماء الفساد في لبنان، بحمايته وبكيفية منع أي إجراء يعزله ويفتح الصندوق الأسود لثلاثين عاماً مضت من خداع اللبنانيين ونهب جنى أعمارهم، من خلال تعطيل المعنيين للتحقيق الجنائي المالي، الذي كلف لبنان ملايين الدولارات حتى اليوم؛ ولم يسمح النافذون له بالتقدم خطوة واحدة.
وحتى على صعيد الإنتخابات الآتية، بينت الوقائع على الأرض أن المخطط الجاري تنفيذه منذ سنوات، للإستيلاء على الأكثرية النيابية وسوق لبنان لينضم إلى معسكر أنظمة التطبيع مع العدو "الإسرائيلي"، فاشلة ولن تحقق اغراضها، رغم الأموال الطائلة التي صرفت على متعهدي مثل هذه المشاريع. وها هي الإنتخابات العراقية، كنسخة يريد البعض تكرارها في لبنان، حيث إجريت تحت ضغوط شارعية، حركتها السفارة الأميركية ومولتها المملكة السعودية، لكنها فشلت في الإمساك بمقاليد السلطة والحكم في بغداد. وها هم رموز التبعية للأميركي عاجزون عن تشكيل السلطة من جديد؛ وعن التقدم ولو خطوة باتجاه تلبية مطالب الإحتلال الأميركي، الساعي لإبقاء قواته ونفوذه على أرض العراق. بل أن ما نراه من وقاحة أنظمة التطبيع العربية، في إنبطاحها أمام العدو "الإسرائيلي"، إذ تعدت كل أنواع العهر، إلى حدود تخليها عن كل أوراق التين، في هروب إلى الأمام ودليل وتأكيد على فشلها في فرض خياراتها وسياساتها. فتلك الأنظمة الساقطة، التي تخلت عن ثوابت شعوبها الوطنية والقومية والدينية؛ وباتت "شرابة خرج" عند الأميركيين وعند قادة كيان الإحتلال "الإسرائيلي"، فضحها موقف الشعب الفلسطيني، الذي يسجل كل يوم موقفاً بطولياً مضحياً يؤكد فيه تمسكه بحقه وأرضه ووطن أبائه وأجداده فلسطين.
هذا الواقع، يوجه الإصبع نحو الأبواق اللبنانية التي تتعامى عن الخطر الصهيوني؛ وتواصل عزف لحن مقيت وساقط يطالب بنزع سلاح المقاومة، فهذه الأصوات المدفوعة الأجر، تحفر خندقاً يفصل بينها وبين كل لبناني يتمسك بحقه في الدفاع عن أرضه وكرامته؛ وعن سيادة وطنه وثرواته المكتشفة في أرضه ومياهه. وهذا بدوره يفتح صفحة التجاذب اللبناني حول ملف ترسيم الحدود البحرية، الذي يكشف أن اللبنانيين مختلفين حتى على مبادئهم السيادية وعلى حقوقهم في ثرواتهم، فترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، يريدها الأميركي ممراً إلزامياً يخسر فيه لبنان موقفه التاريخي والأخلاقي والسياسي تجاه كيان العدو، لينضم إلى أنظمة التفريط والتطبيع، إضافة إلى خسارته جزءاً من حدوده البحرية مع ما تضمه من ثروة نفطية.
واللبنانيون في هذا الخضم تائهون وضائعون، فلا هم قادرون على تغيير هذا النظام الفاسد، القائم على الطائفية والمحاصصة والفساد والزبائنية، فهو لا يعاملهم كمواطنين، بل مجرد تجمعات وقبائل طائفية ومذهبية ومناطقية، بما يمنع توحدهم ضد من يستغلهم وينهب خزينتهم العامة وأموالهم الشخصية. ولا هم قادرون على البقاء أسرى هذا الواقع المؤذي، الذي تصبح معه الإنتخابات النيابية مجرد مسرحية هزلية، يمثل فيها اللبنانيون دور صاحب القرار، فيما الواقع أنهم اسرى وضحايا لنظام لم يصنع لخدمتهم ولم يستشاروا في كيفية تكوينه. فهل هناك عاقل يستبعد حدوث إنفجار شعبي بعدما زاد الصبر عن حده؟