أقلام الثبات
هناك من لا يتعلم من أخطائه. وهناك من لا يتعلم من أخطاء غيره. وفي الحالتين تجد قوى وجماعات لبنانية مصرة على منهجها الإلغائي الفاشل، تنفيذاً لأوامر الخارج الأميركي وبتمويل من أنظمة الخليج النفطية وعلى رأسها المملكة السعودية. خدمة لمشروع التطبيع مع العدو "الإسرائيلي"، الذي يجري العمل حثيثاً لجر لبنان للإنضمام إليه.
آخر محطات هذا المنحى الإلغائي، ما شهدناه من هرج صبياني جرى في معرض الكتاب العربي، منذ أيام. والذي يمكن تسميته "غزوة البيال"، لما حمله من روح داعشية نالت نصيبها ممن واجهها، مثلما نالت الحملة الداعشية الكبرى في غزوتها للجرود الشرقية ومختلف المناطق اللبنانية، التي هدفت إلى إنشاء إمارات لها، تكون قواعد لرفد الهجمة الدولية الفاشلة على سورية، خلال السنوات الماضية.
ثلاثة أشخاص وربما أكثر. وقيل شاب وفتاة لوحدهما، هجما على قاعات معرض الكتاب ليطردا "الإحتلال الإيراني" منها، فلم يجدا من مظاهر ذلك "الإحتلال" إلاّ كتباّ ورفوفا لدور نشر ولبنانيين يعملون عليها، مثل عشرات دور النشر الأخرى المتنوعة الهوية والإنتماء. فما كان من المغرر به إلاّ تخريب الرفوف والتهجم على صورة للشهيد قاسم سليماني وضربها بيديه، فيما الفتاة توثق غزوته بالصوت والصورة، لتقديمها فاتورة للجهات المشغلة، في مشهد محزن ومضحك معاً. خصوصاً أن ذلك ترافق مع هتاف "بيروت حرّة وإيران برّا". وكأن إيران تنشر جيشاً لها في لبنان مثلما تنشر الولايات المتحدة الأميركية جنوداً وضباطاً في مختلف ثكنات الجيش اللبناني، أو أنها هي التي تستخدم قاعدة حامات والمطارت اللبنانية منطلقاً لتحركات عسكرها في لبنان والمنطقة. أو كأن السفيرة دوروثي شيا هي السفير الإيراني، فهي بصفتها الأميركية تتدخل في مختلف الشؤون اللبنانية؛ وتمضي معظم أوقاتها في تفقد قيادة الجيش في اليرزة والتنقل بين الوزارات والإدارات العامة؛ وفي زيارة المناطق والسياسيين والتدخل في الترشيحات الجارية إستعداداً للإنتخابات النيابية المقبلة.
ومن سياق ما جرى، إن كان على صعيد الشعارات السياسية للفاعلين أوالجهات التي إحتفت بعملهم، نتبين أنهم من فلول ما كان يسمى قوى 14 آذار، مطعمة بجماعات "المجتمع المدني"، التي تريد "السلام" مع "جارها" العدو "الإسرائيلي"، الذي غزى فلسطين واحتلها وشرد شعبها؛ ويهدد بأطماعه التوسعية والعدوانية كل جوارها العربي. ولذلك تطرح على مختلف مستوياتها شعار "الحياد" كغطاء لتطبيع العلاقات مع هذا العدو. كما ترفع شعار نزع سلاح المقاومة لمنع أي تصد لإعتداءاته المتواصلة على لبنان.
واللافت في هذه الحادثة، انها ليست الحالة الأولى الفاشلة، التي تكتشف فيها تلك القوى كذب شعاراتها وعمق التضليل الذي يوقعها فيه مشغلوها. فهي لم تتعظ من تجربة العميل إنطوان لحد وصرخة جنوده بعد فوات الأوان، عندما تخلى عنهم جيش الإحتلال "الإسرائيلي"، بعدما استخدمهم أكياس رمل لحماية وجوده على الأرض اللبنانية.
وهي لم تتعلم الدرس القاسي عندما قيل لها أن اللبنانيين الذين قاوموا المحتل "الإسرائيلي" هم غرباء، سيهربون عندما يخرج الجيش العربي السوري من لبنان، فكان الخروج السوري سبباً ليكتشف هؤلاء أن المقاومة وجمهورها هم الطرف الأقوى في لبنان والأكثر تمثيلاً شعبياً، في كل إنتخابات جرت منذ ذلك الوقت.
وكذلك، لم تتعلم تلك القوى من أحداث 7 أيار 2008، عندما جيشت وسلحت وتمولت بهدف الإنقضاض على المقاومة، فكان درس لها، جعل الذين يتباهون بأن لديهم ألاف المقاتلين الجاهزين لخدمة المشروع الأميركي-"الإسرائيلي" في لبنان، لا يجرؤون على الخروج إلى الشارع.
ثم جاءت الهجمة الداعشية على سورية ولبنان معاً، فكان التصدي المظفر لها، بكل التضحيات الجسام التي حملها، درساً لم تتعلم منه تلك القوى، بأن الأميركي يستخدمها لمآربه وضد مصلحة لبنان وشعبه. وأن ما تقوم به هو خدمة خالصة للعدو "الإسرائيلي" وتسليم أمام مطالبه وأطماعه.
وكما أنها لم تتعلم من "كيسها"، فإنها لم تتعلم من تجارب غيرها. لم تأخذ درساً من صورة الأميركيين وهم يدفعون بأقدامهم أتباعهم من الفيتناميين، لمنعهم من الصعود مع السفير الأميركي في سايغون، الذي طوى العلم الأميركي وصعد بالمروحية هارباً من ثوار "الفيتكونغ". وترك خلفه عملاءه.
ولم يتعظوا من مشهد كابول القريب، عندما هرب الأميركيون تاركين أفغانستان، فيما عملاؤهم يتعلقون بالطائرات المغادرة ويسقطون منها ليلاقوا حتفهم.
ولم يتعلموا من أحداث أوكرانيا المستمرة، حيث ورط الغرب بقيادة أميركا النازيون الجدد الحاكمين في كييف، ليمارسوا كل أنواع العداء لجارتهم وشقيقتهم في العرق السلافي روسيا. وهددوا أمنها القومي. وعندما بادرت روسيا لتأديبهم، إكتفى الأميركيون والغرب بالتفرج على الجحافل الروسية تحاصر العاصمة الأوكرانية وتفرض شروطاً لوقف إطلاق النار.
هذه الخفة والسخافة في العقليات التي تدير جماعة "الحياد" و"السلام" مع العدو في لبنان، دعت مشغليهم ومموليهم، إلى بدعة إعلامية جديدة يغطون فيها فشلهم وقبح ما يقومون به، من خلال تزوير الحقائق وقلب الوقائع والقول أن المقاومة هي "إحتلال إيراني"؛ وان جمهورها مجوس وفرس، فيما الوقائع تبين أن وطنية ولبنانية هذه المقاومة وجمهورها، لا تحتاج إلى شهادة مثل تلك الجماعات أو غيرها، المشكوك أصلاً بولائها الوطني، فما قدمته المقاومة دفاعاً عن لبنان، لتحريره من الإحتلال الصهيوني ولردع عدوانه، لم يقدمه أي طرف سياسي أو حزبي لبناني آخر. أما إيران، فجريمتها في لبنان أنها مدت أيدي المساعدة للبنانيين في قتالهم لقوات الإحتلال "الإسرائيلي"، التي إجتاحت لبنان عام 1982. ولولا المقاومة والدعم الإيراني، لكانت بيروت ومعظم لبنان مستعمرات صهيونية، على غرار ما يجري في فلسطين.
هي أوهام لعبت برؤوس البعض، بتحريض أميركي وتمويل سعودي، لكي يكون لبنان رأس حربة الزاحفين لنيل رضا العدو، الذي يحتل فلسطين ومقدساتها ويقتل شعبها يومياً. لكن وجود المقاومة قلب الآية، فبات لبنان رأس حربة في صد الغزوة الصهيونية عنه. ولذلك يقوم الأميركي والسعودي بحصاره إقتصادياً ومالياً، بتواطؤ الفاسدين في السلطة، لتجويع شعبه وإجباره على الخضوع لشروط المفاوض الأميركي-"الإسرائيلي" آموس هوكشتاين ومن خلفه إدارته الخاضعة للوبي الصهيوني الحاكم في واشنطن.